عرض توفيق الجبالي مسرحيّة ”ثلاثين وأنا حاير فيك“ على امتداد شهر ديسمبر بفضاء التياترو، وقبلها أعطت المسرحية التي ضمّت قرابة المائة ممثّلا وممثّلة إشارة انطلاق الدورة الثالثة والخمسين لمهرجان الحمّامات الدولي. طوّر الجبالي في المسرحيّة وطوّعها لتحتمل خصوصيات الفضاء المغلق، حيث أضاف العديد من المشاهد وقلّص من عدد الممثّلين لينزل إلى ثلاثين ممّثلا وممثّلة ممّن أشرف على تكوينهم ضمن ستوديو التياترو. تمرّدت مسرحية ”ثلاثين وأنا حاير فيك“ على الفضاء الركحيّ التقليديّ بإدخال مؤثّرات ضوئيّة وصوتية جديدة وبكتابة خارجة عن المعتاد وتعبّر عن روح توفيق الجبالي الساخرة من كل شيء والمُدنّسة لكل مقدّس. تقوم المسرحية ورغم وضوح المواضيع التي تطرحها على الترميز والإحالة وتنهل الكثير من حقل اللامنطوق، فالعديد من المشاهد التي تبدو ظاهريّا غير مترابطة هي بمثابة فضاء مفتوح للتأويل والقراءات المختلفة بفضل التخييل الذي انبنى عليه نصّ المسرحيّة رغم ارتباطه الشديد بالواقع.

صور: محمد كريم العمري – الكازار

السياسة، غذاء لسخرية الجبالي

تجاوز توفيق الجبالي معضلة المباح وغير المباح في اللغة، فكانت نصوصه تعبيرة جماعيّة عن ذوات مختلفة بلغة لا تعترف بالحياد، اللغة التي نعرفها بمفرداتها الشوارعيّة ودلالاتها الإيحائيّة، وهو ما ساعده على طرح كلّ المواضيع داخل فضاء متحرّر من الأحكام المسبقة والعنتريّات جسّدته مسرحيّة ”ثلاثين وأنا حاير فيك“ التي استلهمت مشاهدها من مسرحيّات سابقة مثل ”كلام الليل“، ”الخلوة“، ”لصوص بغداد“، ”مسألة حياة“ وغيرها. حوّل الجبالي السياسة إلى موضوع أوّل للسخرية والنقد، فكانت الانتخابات البلديّة على رأس المواضيع التي طرحها بطريقة ذكيّة وبشكل سلس، كما تحدّث عن بطش السياسيّين وهوسهم المحموم بالكرسيّ، قد يبدو المشهد مكرّرا وتقليديّا ولكن المهم فيه أنه نجح في إدارة الممثّلين والممثّلات الذّين أدوا أدوارهم بحرفيّة جليّة رغم محدوديّة تجارب بعضهم.

لم يقتصر الجبالي على مشكلة الانتخابات البلدية كمسار شائك أو نقد أداء السياسيّين بل صعّد في وتيرة السخريّة ليسخر من الدستور نفسه ومن بعض الفصول التي جاءت هلاميّة وغير واضحة وقابلة للتأويل مثل الفصل السادس، والذي تحدّث عن دولة تكفل حريّة الضمير من جهة وتحمي المقدّسات من جهة أخرى، ولكن عن أيّ مقدّسات نتكلّم ونحن عشنا على وقع ”حادثة العبدليّة“ التي اتهم خلالها فنّانون وفنّانات تشكيليّات بالتطاول على المقدّس وبالكفر والإلحاد. سخرية مسرح الجبالي تطرح مسألة الاستقلاليّة التي يبتغيها ويعمل من أجلها. الاستقلالية كغاية ووسيلة للحديث عن كلّ شيء وفي كلّ شيء دون قيود وكوابح مانعة للحريّة، الاستقلاليّة التي تسمح له بمساءلة السياسيّ والدينيّ والأخلاقيّ بعيدا عن الضوابط والمعايير الجاهزة.

صور: محمد كريم العمري – الكازار

”خدش الحياء“ للبوح بالمسكوت عنه

عرّى توفيق الجبالي البنى الفكرية التقليدية في ”ثلاثين وأنا حاير فيك“ و”خدش حياء“ المتفرّجين والمتفرّجات بمشهد الكرة وهو من أهم مشاهد المسرحية التي أظهرت قدرات الممثلين الجسدية، حيث حوّل الكرة إلى موضوع جنسيّ ودثّرها بإيحاءات متباينة، فالكرة في هذا المشهد تجمع وتفرّق بين اللاعبين، تثير داخلهم رغبات التحكّم والتسلّط ولكنّها في بعد آخر تحيي شهواتهم المكبوتة. شاهدنا الممثلين، وهم كلّهم رجال، يلمسون الكرة بشبق عارم ويمرّرونها جيئة وذهابا على أعضائهم التناسليّة، وبوضعيّات مختلفة وتأوّهات وأنين مثير، تصبح الكرة موضوع الرغبة الأوّل يجرّ الممثلّين خارج إدارة الحكم الذي لم ينفع صوت صفّارته الحادّ والمزعج في إيقافهم. من بين المشاهد الأخرى المهمّة في المسرحيّة، المشهد الذي جمع بين سكّيرين يتحدّثان بسخرية عن الفنّانات والفنّانين الذين غادروا عوالمنا بصمت ودون ضجيج. أراد الجبالي من خلال هذا المشهد أن يُرينا كيف تصبح الحياة الشخصيّة للفنّان عرضة للنميمة والأحكام، واستدلّ على ذلك بعلي الرياحي الذي طغت بعد وفاته شائعات ميولاته الجنسية المثليّة على أعماله والفنّ الذّي قدّمه ووهب نفسه له. لم يعوّل توفيق الجبالي على مخيّلته وهواجسه وحيرته فقط في كتابة ”ثلاثين وأنا حاير فيك“ بل التجأ إلى الممثلّين في تطوير المشاهد والإدلاء برأيهم فساعده في الكتابة كلّ من صابر الوسلاتي وعياض الشواشي وهو ما يؤكد رغبته في بثّ روح غير روحه في المسرح كما أراده ويريده، وهو ما يدفعنا للعودة إلى الحديث عن تجربة الجبالي المسرحيّة ومحاولات التجديد التي عمل ويعمل من أجلها.

صور: محمد كريم العمري – الكازار

تجديد وتثوير الخطاب المسرحي

تختزل مسرحية ”ثلاثين وأنا حاير فيك“ ولو بشكل غير مستفيض وتفصيليّ مسيرة توفيق الجبالي المسرحيّة والتي عرفت أوجها منذ تأسيس فضاء التياترو في الثمانينات. المسرحية هي احتفال بمرور ثلاثين سنة على بعث التياترو الذي احتضن عشرات الممثلات والممثّلين الذين لم يعبروا بوّابة المعهد العالي للفن المسرحيّ والذي أصبح يقدّم صكوك الشرعيّة لمحبّي التمثيل وهواته. في احتفالية التياترو، تحدّثت زينب فرحات رفيقة درب توفيق الجبالي، عن هذا الفضاء الذي ورغم هيمنة مسرحيات الجبالي على برمجته يظلّ من أهم الفضاءات الفنية المستقلّة، قائلة:

سنحتفي الإحتفاء الذي يليق بالنساء والرجال الذين آمنوا بالفن كمدخل للعالم. سننتج أعمالا مسرحية تليق بالزمن المتبقي المتجدد ونراجع أعمالا تليق بالزمن المنقضي. سنكتب ونرسم ونرقص ونقرأ ونحلم. سنعيد قراءة تاريخ الفضاء الذي صمد رغم كل أسباب الاستقالة… لنا الفن، لنا الحياة.

لم يقتصر الجبالي في تجربته على نفض الغبار عن جماليات متروكة  بل انغمس في تجربة التجديد في الخطاب المسرحيّ بمقاربة تجريبية فريدة. فقد ساهم منذ سنة 1966 إلى جانب مجموعة من المخرجين من بينهم المنصف السويسي وعلي اللواتي وفرج شوشان في كتابة بيان يطرح إشكالية التجديد في المسرح التونسيّ ويدعو إلى مراجعة هندسة الفضاءات المسرحيّة حتى تتواءم مع النفس التجديديّ ومحاولات تثوير الخطاب المسرحيّ. وهكذا يكون توفيق الجبالي في ”ثلاثين وأنا حاير فيك“ قد لخّص حيرته المتجدّدة والدائمة والتي لا ينضب معينها.