مع اقتراب نهاية السنة، كشفت مختلف المؤسّسات العمومية على غرار البنك المركزيّ والمعهد الوطني للإحصاء وعدد من الوزارات ذات العلاقة بالشأن الاقتصادي والمالي عن حصيلة سنة 2017، لتنشر تباعا مؤشّرات تثبت تواصل السنوات العجاف التي عجزت الحكومات المتعاقبة عن وضع حدّ لها عبر اجترار نفس السياسات والخيارات الاقتصاديّة ومحدودية الآفاق والمراهنة على مجاراة الوضع وتطبيق التوصيات الدوليّة. مؤشّرات لم تكن كافية لدفع الحكومة لإجراء تغييرات جذريّة في سياساتها الاقتصاديّة، وهو ما يعكسه قانون الماليّة لسنة 2018.

المديونيّة: الهرولة في دائرة مغلقة

الشعار الدعائي الحكومي القائم على ضرورة تعبئة موارد الدولة للضغط على عجز الموازنة العموميّة التي ارتفعت خلال السنتين الأخيرتين من 4.8% إلى 6,1% سنة، يقابله تعويل مفرط على الاقتراض الخارجيّ. سياسة تنسف كلّ المساعي لإيقاف الإهدار المتواصل لأكثر من ثلثي الناتج المحليّ الخام الذّي يُوجَّه سنويا نحو تسديد القروض وفوائدها. فقانون الماليّة لسنة 2018 لم يختلف عن سابقيه في إعلان نيّة الحكومة التوجّه إلى تكديس ديون جديدة مُوجّهة بالأساس إلى نفقات التصرّف. خيار سيرفع حجم الدين العمومي إلى 71.4% من الناتج المحلي الخام أي ما يناهز 76.2 مليار دينار سنة 2018 مقابل 69.6% سنة 2017 أي ما يناهز 67.9 مليار دينار وبنسبة تطوّر بلغت 18% بين سنتي 2015 و2017.

التقشّف على حساب الأولويّات

رغم تصاعد مؤشّرات البطالة التي بلغت 15.5% سنة 2017، مسجّلة ارتفاعا بنصف نقطة خلال السنتين المنصرمتين، إلاّ أنّ قانون الماليّة للسنة المقبلة يطرح ضمن إجراءاته للضغط على الإنفاق العموميّ تجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية (باستثناء 3000 خطة في وزارتي الداخلية والدفاع). إضافة إلى عدم تعويض المحالين على التقاعد (حوالي 11800) والشغورات المتوقّعة بسبب الاستقالة أو الوفاة أو الإلحاق خلال السنة الجارية. تجميد الانتدابات في القطاع العمومي، والذّي مثّل أحد أهمّ أسباب التوتّر والاحتقان الشعبي في أكثر من محطّة كانتفاضة جانفي 2016 واعتصام الكامور ربيع 2017، لا ينفصل عن خطّة إصلاح الوظيفة العموميّة المُقَدّمة من صندوق النقد الدوليّ والتي تشترط في أحد بنودها الضغط على كتلة الأجور. خطّة وضعت الحكومة بين مطرقة المطالب الشعبيّة ورفض منظّمة الشغّيلة وسندان القروض المشروطة التّي تعوّل عليها لترقيع العجز المتواصل.

سياسات التقشّف لم تتوقّف عند إيقاف الانتدابات، بل شملت تخفيض دعم المواد الأساسيّة من 1600 مليون دينار سنة 2017 إلى 1570 مليون دينار سنة 2018، إضافة إلى تقليص اعتمادات عدد من الوزارات على غرار التخفيض من ميزانية وزارة الشؤون الاجتماعية من 1427.746 م.د سنة 2017 إلى 1355.364 م.د سنة 2018، وميزانية التكوين المهني والتشغيل من 702.536 مليون دينار سنة 2017 إلى 672.303 م.د سنة 2018.

توسيع دائرة الضحايا واجترار السياسات الفاشلة

الخيارات الحكومية القائمة على التداين كحلّ وحيد لمجابهة عجز الموازنات العمومية، مرورا إلى تبنّي نفس الخيارات التنموية وتكريس الاختلال الجهويّ، وصولا إلى المضيّ في تحميل الفئات الأضعف تبعات الارتدادات السلبية للأزمة الاقتصاديّة، لم تقتصر هذه المرّة على المعطّلين عن العمل أو ذوي الدخل المتدنّي، حيث ستشمل ارتدادات الإجراءات الجديدة لقانون المالية لسنة 2018 فئات اجتماعيّة أخرى كانت نسبيا على هامش الأزمة. حيث سيتمّ الترفيع في نسبة التسبقة المستوجبة بعنوان توريد مواد الاستهلاك من 10 % الى 15% وهو ما سينتج عنه إزاحة الموردين الصغار والدفع نحو احتكار التوريد بيد قلة من الموردين من أصحاب الموارد المالية الهامة والذين ينتفعون بسهولة الحصول على التمويل البنكي. كما أفضت النقاشات صلب لجنة الماليّة قبيل طرح مشروع ميزانيّة الدولة للسنة المقبلة على الجلسات العامة في مجلس نوّاب الشعب إلى إلغاء الفصلين 26 و27 المتعلقين بإرساء نظام جبائي لفائدة المؤسسات الصغرى. هذا إضافة إلى استمرار تعطيل البتّ في مشروع الإصلاح الجبائي الذّي سينعكس مباشرة على وضعيّة المؤسّسات الصغرى وقطاع المهن الحرّة. خطر استشعرته منظّمة الأعراف التي أعلنت في بيان لها في 15 ديسمبر الجاري عن خيبتها من قانون المالية للسنة المقبلة معتبرة أنّ “الأعباء الجديدة، التي جاء بها هذا القانون ستتسبب في غلق العديد من المؤسسات وفقدان مواطن الشغل وبالتالي تأزم الوضع الاجتماعي”، ولتحمّل جميع الأطراف “ما سيترتب عن هذا القانون من تداعيات سلبية على المؤسسات وعلى ديمومتها وحتى على وجودها”.

إجراءات أخرى على غرار الترفيع في نسبة الأداء على القيمة المضافة بنسبة 1%، ستنعكس سلبا لا فقط على الفئات الاجتماعية ضعيفة الدخل أو الهشّة بل ستشمل الطبقة الوسطى التي تتآكل منذ ستّ سنوات تقريبا (من 60% سنة 2011 إلى 30% تقريبا سنة 2017 حسب تقرير البنك الدولي). إذ سيتمّ تحميل كلفة تعبئة موارد الدولة عبر الأداءات غير المباشرة للشرائح الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة وهو ما يعني الدفع نحو مزيد تدهور المقدرة الشرائية للمواطن، نظرا للارتفاع المرتقب في أسعار أغلب السلع والخدمات.

أمّا على صعيد الاستثمار، فقد أعاد قانون المالية لسنة 2018 في فصله 13، تفعيل آلية الاعفاءات الجبائية التي تم الغاءها بمقتضى قانون الاستثمار 2016، إضافة إلى تواصل تكفّل الدولة بمساهمة الأعراف في النظام القانوني للضمان الاجتماعي تحت غطاء التنمية الجهوية وتشغيل حاملي شهادات التعليم العالي، كما جاء في الفصل 19 من القانون المذكور. إجراءات تتناقض ووضعية المالية العمومية المختلّة وتزيد من إنهاك كاهل الدولة في اعتمادات، لم تضف مردوديّة ملحوظة على مستوى التشغيل أو تعزيز الموارد الجبائيّة، ولكنّه يعكس في المقابل تواصل الفشل المتوارث عبر مختلف الحكومات خلال السنوات السبع الماضية، وإصرار مختلف المكوّنات السياسيّة التي تداولت على السلطة على انتهاج نفس الخيارات الاقتصادية واجترار سياسات إنتاج البؤس والفشل.