في مدينة رأس الجبل، التابعة لولاية بنزرت، يروي محي الدين القرمدي (24 سنة) لموقع نواة قصة تعرضه للعنف والتهديد من قبل أعوان أمن، من أجل إجباره على الإدلاء بشهادة مزورة حول حادث مرور. يشير محدثنا إلى أن الأحداث تعود إلى يوم 19 نوفمبر 2016، عندما عمدت دورية أمنية إلى مطاردتهم دون سابق إنذار على الطريق الرابطة بين منطقتي رأس الجبل ورفراف، مما أدى إلى انقلاب السيارة التي كان يقودها وبرفقته ابن عمه مراد الذي تسبب له الحادث في إعاقة وصديقه صابر الذي لقي حتفه. يواصل محي الدين روايته مشيرا إلى أنه بعد الإفاقة من صدمة الحادث طلب منه عوني أمن –أحدهم يشتغل في سلك المرور- أن يتملص من قيادته للسيارة ولا يطالب بتتبع الدورية الأمنية –على اعتبار أن هناك حالة وفاة- وأن يدلي بشهادة مفادها أن صابر بن نجمة الذي لقي حتفه في الحادث هو الذي كان يقود السيارة، وأن يقول أيضا بأن سائق السيارة الموهوم كان في حالة فرار ولا يملك رخصة سياقة مما اضطر أعوان الأمن إلى مطاردته.

هذه الرواية أكدتها لموقع نواة فائزة بن خالد، والدة صابر بن نجمة، مشيرة إلى أن أحد أعوان الدورية المذكورة مارس ضغوطات على محي الدين القرمدي حتى يدلي باعترافات خاطئة من أجل التفصّي من مسؤوليتهم في المطاردة غير القانونية، مبينة أن ابنها الذي لقي حتفه ولُفقت له تهمة سياقة السيارة لا يملك رخصة سياقة ولم يجرّب طيلة حياته قيادة أي سيارة، وأضافت بأنها تواجهه عقوبة بشهرين سجنا لأنها توجهت إلى مركز الشرطة برأس الجبل وهددت أعوان الأمن بفضحهم.

في مدينة أريانة، كشفت أيضا السيدة يسرى بن خميس -من خلال شهادة أدلت بها للمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب- عن تعرضها يوم 23 مارس 2016 للاعتداء بالعنف الشديد وللإهانات الجنسية من قبل أعوان مركز الأمن بأريانة، بعد تدخلها لإيقاف خلاف حصل بين شقيقها وصديقته، كما تم إجبارها على إمضاء محضر دون الإطلاع على محتواه. وتضيف يسرى بن خميس أن الاعتداء تسبب لها في راحة طبية مدتها 122 يوما، مشيرة إلى أنها تلقت تهديدات بالانتقام منها ومن عائلتها عندما علم أعوان الأمن أنها تقدمت بشكاية ضدهم.

وليد دنقير، من أبناء باب جديد بالعاصمة، توفي أول نوفمبر 2013 بمنطقة الأمن بسيدي البشير. حالته سلطت الضوء على التعذيب في المقرات البوليسية بعد الثورة وعلى معضلة الافلات من العقاب

الشكاوي ضد الأمنيين: الطريق المستحيل إلى المحاكمة

تشير التقارير السنوية الأخيرة (2015-2016) التي نشرتها المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، إلى أن العشرات من شكاوي سوء المعاملة أو التعذيب التي يرفعها مواطنون ضد عاملين في الأجهزة الأمنية لم تصل إلى طور المحاكمة، رغم أن الكثير منها يتعلق بحالات موت مستراب في السجون أو في مراكز الإيقاف. هذا الواقع برره منذر الشارني، الكاتب العام للمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، بتظافر العديد من العوامل من بينها الإطالة غير المعقولة للأبحاث بسبب التضامن المهني بين الأمنيين، خصوصا وأن الأبحاث في جرائم التعذيب أو سوء المعاملة عادة ما يتم فتحها في نفس المراكز الأمنية التي وقع فيها الاعتداء.

وأضاف الشارني بأن “هناك بعض القضايا التي تُحفظ لعدم التوصل إلى الجناة وذلك استنادا إلى الأبحاث التي يجريها عادة جهاز الشرطة، وفي بعض الأحيان يضطر الضحايا إلى التنازل عن حق التتبع إما لتلقيهم تهديدات بالإنتقام منهم ومن ذويهم عبر تلفيق قضايا جديدة أو بسبب اليأس من تحقيق العدالة خصوصا وأن معظمهم ينحدر من أوساط اجتماعية فقيرة”. ظاهرة إفلات قوات الأمن من العقاب أدانها أيضا تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية في أواخر سبتمبر 2017، أشار إلى أنه “منذ عام 2011، لم يتم إجراء تحقيقات مستقلة ونزيهة في الأغلبية الساحقة من المزاعم الجدية بالتعذيب وغيره من الانتهاكات الجسيمة على أيدي قوات الأمن، حيث لم تُعقد سوى بضع محاكمات”.

في نفس السياق أشار التقرير الصادر عن النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين حول حالة حرية الإعلام بين شهري مارس وأوت 2017، إلى تعرض الصحفيين التونسيين إلى اعتداءات مادية ومعنوية “دون أن يقابل ذلك عقاب للفاعلين، وهو ما يكرس ظاهرة الإفلات من العقاب ويؤدي إلى تواصل الانتهاكات كمًّا وازدياد خطورتها نوعيًّا”. وأضاف التقرير بأن “الانتهاكات التي لا يحاسب مرتكبوها أمام القضاء تؤدي إلى سيادة الشعور بالخوف وبانعدام الأمان في صفوف الصحفيين، وتكون نتيجته عودة الرقابة الذاتية وتجنب الخوض في الموضوعات التي يمكن أن تولّد ردود أفعال ضدهم”. وأشار ذات التقرير إلى أن قوات الأمن حافظت على تصدر ترتيب المعتدين على الصحفيين إذ كانت مسؤولة عن 23 بالمائة من الإعتداءات.

قيس بن الرحومة، 36 سنة من متساكني حي “محمد علي” بالعاصمة، توفي في أكتوبر 2015 اثر تعرضه للتعنيف على أيدي أعوان فرقة مكافحة المخدرات للحرس الوطني بالوردية.

الإنكار الرسمي لواقع الانتهاكات

آخر التصريحات الرسمية الملفتة للانتباه حول البت في شكاوي التعذيب، كانت تلك التي أدلى بها وزير الداخلية السابق الهادي مجدوب في أفريل 2016، خلال إجابته عن أسئلة بعض النواب المتعلقة باستمرار ممارسات التعذيب، إذ أشار إلى أن “80 بالمائة من الشكاوي المقدمة من قبل المواطنين تعتبر ادعاءات كيدية”. وقد أضاف وزير الداخلية في ذات التصريح إلى أن “مصالح وزارة الداخلية تتولى باستمرار تفقد الوحدات الأمنية ومعاينة الأخطاء وتسليط العقوبات على المخالفين”. ويذكر أن وزارة الداخلية تجري أعمال التفقد والمعاينة عبر التفقدية المركزية لمصالح الوزارة التي يُوكل إليها “مباشرة التحريات والأبحاث في مضمون الشكاوي والعرائض والإعلامات الواردة على الوزارة والمتعلقة بشبهات فساد أو استغلال نفوذ أو تجاوزات جسيمة منسوبة لأعوان أو هياكل الوزارة”. ويتعرض هذا الهيكل باستمرار إلى تشكيك في مصداقية الأبحاث التي يجريها، وهو ما تشير إليه ردود وزارة الداخلية على المراسلات المتعلقة بالانتهاكات التي ترفعها بشكل دوري منظمات حقوق الإنسان، التي أبدى إزاءها الكاتب العام للمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب بعض التحفظات بخصوص عدم جديتها في محاسبة أعوان الأمن، موضحا أن “ردود وزارة الداخلية على شكاوي الانتهاكات وسوء المعاملة عادة ما تنتهي بتبني إفادات أعوان الأمن المنسوبة إليهم الانتهاكات”.

وفاة عصام المرواني بمنطقة بومهل بالعاصمة في سبتمبر 2012 اثر إيقافه. حسب عائلة الضحية و الشهود مارس أعوان الأمن ضغوطات عليهم ليلتزموا الصمت حول مُلابسات مقتل عصام المرواني

من جهتها أكدت خولة شبح، عضو وحدة رصد الاعتداءات على الصحفيين بمركز السلامة المهنية بالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، أن النقابة تلقت العديد من الردود من قبل مصالح وزارة الداخلية بخصوص الاعتداءات الواقعة على الصحفيين، موضحة أن “معظم الردود الواردة علينا لم تكن مقنعة ومتنافية مع حرية الإعلام لأنها تبرر المنع والاعتداء تحت ذريعة تحجير التصوير أمام مراكز السيادة”. وأضافت خولة شبح أنه لا وجود لنتائج إدارية حول مصير الشكاوي المرفوعة ضد الأمنيين، التي تمر عبر التفقدية المركزية لمصالح وزارة الداخلية. ويُذكر أن النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين نظمت منتصف شهر أكتوبر المنقضي جلسة عمل مع مكتب الإعلام التابع لوزارة الداخلية من أجل التنسيق حول آليات النظر في شكاوي الانتهاكات الواقعة على الصحفيين.

تتلقى أيضا وزارة العدل الشكايات المتعلقة بسوء المعاملة والتعذيب عبر سجل خاص موجود على مستوى كل محكمة ابتدائية، وعبر تخصيص عضو من النيابة العمومية للنظر في تلك الشكاوي وتقرير مآلها. وبخصوص مردودية الآليات التي وضعتها وزارة العدل أشار التقرير السنوي للمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب لسنة 2016 إلى أن “الأوضاع لم تتغير كثيرا، إذ أن 82 بالمائة من تلك الشكاوي ظلت على مستوى البحث الابتدائي في حين أن نسبة 18 بالمائة أحِيلت إلى قضاة التحقيق، ولم يتم إحالة أي ملف منها إلى طور المحاكمة، وهي نسب تكاد تتكرر كل سنة”.

علاوة على حالة العطالة التي تشهدها الهياكل المسخرة لتلقي شكاوي الإنتهاكات، تكشف المواقف الرسمية -النافية لاستمرار ممارسات التعذيب وسوء المعاملة- عن وجود حاضنة مؤسساتية لانتهاكات حقوق الإنسان، يوفرها القرار الحكومي الباحث عن توظيف الأجهزة الأمنية ضمن خطط الضبط الإجتماعي، تحت عناوين “مكافحة الجريمة” و”الحرب على الإرهاب”.

القضاء بين العجز و تغذية الافلات من العقاب

رغم أن القضاء يعد الجهة الموكول إليها تنفيذ العدالة والحد من ظاهرة الإفلات من العقاب، فإن العديد من التقارير الحقوقية تشير إلى قصور الجهات القضائية عن القيام بدورها كلما تعلق الأمر بانتهاكات تقف وراءها الأجهزة الأمنية، خصوصا جهاز الشرطة. وقد كشف تقرير أعدته الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان –من المنتظر أن يُنشر في المدة القليلة القادمة- عن ضحالة قضايا التعذيب المنشورة أمام المحاكم رغم ارتفاع عدد الشكاوي التي يرفعها الضحايا.

في هذا السياق أوضح علاء الخميري، منسق مشروع “الإفلات من العقاب في جرائم التعذيب” بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، أنه خلال الخمس سنوات الفاصلة بين 2011 و2016 لم يصدر سوى حكم قضائي واحد في جريمة متعلقة بالتعذيب، بينما لم تكشف وزارة العدل عن عدد الشكاوي المتعلقة بجرائم التعذيب خلال الفترة المذكورة. وأشار محدثنا أن التساؤل عن دور القضاء يتعزز عند الوقوف على ضعف القضايا المنشورة، مضيفا بالقول “إن الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان راسلت في المدة الأخيرة 7 محاكم ابتدائية بعدد من مناطق البلاد من بينها الكاف وجندوبة ونابل وباجة وذلك للإطلاع على عدد الشكايات ومآلها، وحسب الردود التي وردتنا من المحاكم المذكورة فإن العدد لم يتجاوز الـ6 شكايات بالمحكمة الابتدائية بجندوبة و4 شكايات بالمحكمة الإبتدائية بباجة، وقد تراوح مآلها بين الحفظ أو الحكم الغيابي أوالاستئناف أمام دائرة الاتهام”.

تعرّض منير عبدولي في جانفي 2016 على مستوى منطقة البستان السكنية بصفاقس إلى العنف الشديد من قبل دورية أمنية.

بخصوص هذه الحصيلة القضائية التي اتخذتها قضايا التعذيب، أكدت روضة القرافي، رئيسة جمعية القضاة التونسيين، لموقع نواة أن “الدولة لا تمتلك سياسة جزائية لمناهضة جريمة التعذيب رغم أن هذه الممارسة متعلقة بأعوان في أجهزتها التنفيذية، وغياب مثل هذه السياسة يؤثر على الدور القضائي لأن فعاليته في فتح ملفات الانتهاكات والتعذيب تتعزز كلما توفرت الإرادة السياسية التي تسلحه بالتثمين وبالاعتمادات وتكوين القضاة”.

هذا ولم تنكر رئيسة جمعية القضاة التونسيين المسؤولية الذاتية للقضاة في المرحلة الحالية، مشيرة إلى أن هناك بعض القضاة يخشون النظر في مثل هذه الملفات لأنها تطرح مسؤولية السلطة السياسية في ارتكاب الانتهاك. أما الصنف الآخر من القضاة الذي “يتحلى بالشجاعة” على حد تعبيرها فإنه يواجه العديد من العراقيل في مواصلة الأبحاث، قالت القرافي أن من بينها “لا يوجد تعاون من الضابطة العدلية إذ أن باحث البداية لا يمثل أمام قاضي التحقيق عندما يُوجّه إليه استدعاء، علاوة على ضعف الدور الذي تقوم به منظومة الطب الشرعي لأن فيها أطباء لا يجرون الاختبارات اللازمة التي تثبت الانتهاك أو التعذيب، وأحيانا تُجرى الاختبارات بشكل متأخر عندما تُمحَى آثار التعذيب”.

أية حلول للحد من الإفلات من العقاب؟في الوقت الذي يميل موقف السلطات إلى إنكار جرائم التعذيب والتقليل من شأن انتهاكات حقوق الإنسان، تذهب تقارير المنظمات الحقوقية والمحلية –مضاف إليها شكاوي وشهادات المئات من الضحايا- إلى تأكيد وجود منظومة قوية للإفلات من العقاب، يحظى بموجبها أعوان الأسلاك الأمنية بالحماية من المحاسبة والمساءلة. وإزاء هذا التشخيص الحقوقي تتعدد الآليات التشريعية والمؤسساتية المقترحة لمكافحة ظاهرة الإفلات من العقاب.

وفاة عبد الرؤوف الخمّاسي في أوت 2012 عند إستنطاقه بمقرّ الشرطة العدلية بالسيجومي

في هذا السياق أشار منذر الشارني، الكاتب العام للمنظمة التونسية لمناهضة التعذيب، إلى أهمية إنشاء جهاز مستقل للبحث في الشكاوي ضد الشرطة، أو أن يتم إحداث لجنة وطنية مستقلة صلب الهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية تُعنى بتلقي هذا النوع من الشكاوي. وأضاف الشارني بأن القرار السياسي بشكله الحالي لا يجعل الدولة مساعدا على كشف التعذيب وتجريمه وإنما يضعها في موقع المتواطئ مع هذه الممارسة، و”هو ما يجعلنا نطالب بأهمية الاعتراف السياسي والقانوني بانتهاكات حقوق الإنسان خصوصا جريمة التعذيب” على حد تعبيره.

من جهتها طالبت منظمة العفو الدولية في تقرير سبتمبر 2017 السلطات التونسية بـ”تعديل المجلة الجزائية بما يكفل ان تكون جميع الفصول المتعلقة بالتعذيب وعقوبة الإعدام متماشية مع القانون الدولي”. وفي نفس السياق دعت المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب في تقريرها السنوي 2015 إلى “تعديل القانون الجزائي في اتجاه اعتبار العنف المسلط من موظف عمومي على أي إنسان تعذيبا في حالة ما إذا كان دافعه هو العقاب”. وطالب ذات التقرير بـ”تعديل التشريعات بخصوص نظام الشكاوي ضد أعوان السلطة العمومية الذين يرتكبون انتهاكات وإنشاء نظام قانوني لحماية الضحايا والشهود والخبراء، وتولي النيابة العمومية صلاحية البحث في الشكاوي المذكورة إلى حين تعديل القانون”.

تصطدم هذه المقترحات بواقع سياسي، يقترن فيه حضور دوائر الحكم بالبحث الدائم عن توظيف الملف الأمني وليس بالبحث عن مخارج لإصلاح المنظومات الأمنية والسجنية والقضائية، وقد لاح هذا الخيار  الرسمي من خلال اللقاء الذي جمع أول نوفمبر المنقضي بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد والرئيس الباجي قايد السبسي، وقد حث خلاله هذا الأخير على “منح الأولوية المطلقة لقانون زجر الإعتداء على القوات المسلحة”، رغم ما يحمله هذا المشروع من فصول متعارضة مع الدستور التونسي ومع منظومة حقوق الإنسان الكونية.