المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

عرف العالم تحوّلات سياسيّة هامّة قلبت موازين القوى، وتغيّرا جذريّا لم يكن في صالح الإسلاميّين وحلفائهم. فمن ساندوهم بطريقة أو بأخرى لم يعودوا في مواقع صنع القرار، من هيلاري كلينتون في الولايات المتّحدة إلى الإخوان المسلمين في مصر. هذا التحوّل وَضع الإسلاميّين في موقع ضعف ولعلّ ذلك ما جعلهم يسارعون إلى الاحتماء بالباجي قايد السّبسي.

إكراهات السّاحة الدوليّة

الرّجة الأولى كانت سقوط نظام حكم الإخوان في مصر، الذي يختلف الملاحظون في تقييمه بين من يعتبره تحقيقا لمطالب الشّعب الذي هبّ إلى الشّوارع آنذاك وبين من يرى فيه انقلابا. في كلتا الحالتين يمكن القول بأن حركة النّهضة خسرت حليفا مهمّا تشاطره الإيديولوجيا والرّؤية المجتمعيّة. وربّما كانت حملات المساندة من قبل قياداتها تخفي سعيا إلى حماية مصالح النّهضة أكثر منها دعما لحلفائهم المصريّين.
وعلى نطاق عربيّ أيضا تراجعت حظوظ الإسلاميّين في القطر اللّيبي في الفوز بغنيمة الحكم. فلا يمكن لأحد أن ينكر تقدّم قوى خليفة حفتر وحصوله على دعم دوليّ متزايد مقارنة بقوى فجر ليبيا. وحتّى داخليّا فقد تمّ تصنيف كلّ من فجر ليبيا وجماعة أنصار الشّريعة “جماعات إرهابيّة خارجة عن القانون ومحاربة لشرعيّة الدّولة”.
أمّا على الصعيد الدوليّ، فقد تأكّد للنّهضة وجود خطر مُحدق بها يهدّد وجودها عند تقلّد دونالد ترامب الحكم في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. هذا الرّجل الذي لم يكفّ عن الوعيد باجتثاث التّنظيمات الإسلاميّة، سرعان ما رأيناه يدعم الرّئيس المصري عبد الفتاح السّيسي ويساند السعوديّة على حساب قطر الرّاعي والحليف الأساسي لحركة النهضة والإخوان المسلمين بشكل عام.
ولم تتوقّف الأحداث عند هذا الحدّ، آخرها الأزمة الخليجيّة التي فرضت على قطر حصارا لم تجد خلاله أيّ دعم عالميّ. بل بالعكس فقد أيّد الرّئيس الأمريكي الأمر مؤكّدا علاقتها بالتّنظيمات الإرهابيّة. حادثة أخرى تؤكّد للنهضة ضرورة التأقلم مع الوضع الجديد، خاصّة أنّ قطر كانت من ابرز الدّاعمين لها قبل الثّورة وبعدها.

ضغط القواعد

بدأت القطيعة بين قيادات النّهضة وقواعدها وطفت على السّطح منذ إعلان التّحالف مع نداء تونس، الحزب الذي قامت الحملة الانتخابيّة للحركة على معارضته. المتأمّل في تصريحات القيادات اليوم وردود أفعال القواعد على وسائل التّواصل الاجتماعي يلاحظ تباينا وتباعدا في الآراء، فكأنهم ينتمون إلى حزبين مختلفين. فالأوّلون يدعون إلى مواصلة التّوافق والانفتاح والآخرون يريدون الوقوف في وجه ما يسمّونه ثورة مضادّة ويؤيدون إقصاء من يخالفهم الرّأي. القيادات أيّدت بعض القرارات الدّاعمة لمدنيّة الدّولة وحتى علمانيّتها، أمّا القواعد فقد رفضتها رفضا تامّا. هذه القطيعة برزت خاصّة خلال الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، فقد اتّجه النّهضاويّون أفواجا للانضمام إلى معسكر المرزوقي عكس راشد الغنوشي الذي صوت للباجي قايد السبسي حسب ما أعلنه القيادي في الحركة رفيق عبد السلام.
لا شكّ أنّ قيادة الّنهضة اليوم عالقة بين مطرقة نداء تونس والتحوّلات الدوليّة وسندان القواعد التي لم تعد تمثّل آراءها ومواقفها على ما يبدو.

شقوق داخليّة

على خطى نداء تونس عرفت حركة النّهضة أيضا خلافات أدّت إلى ظهور شقوق وروافد. يحاول القياديّون تجميل ذلك بالقول إنّ الاختلاف أمر ضروريّ وظاهرة جيّدة. وهو قول لا يخلو من الصحّة، لكنّ الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. فقد عرفت الحركة عديد الانشقاقات على مرّ تاريخها، بين الحمائم و الصّقور، بين قياديّي المنفى ومن بقوا في تونس.
المؤتمر الأخير جعل من الخلافات أمرا جليّا يُرى بالعين المجرّدة. رفض الغنّوشي مقترحات دَمقرطة الحركة وتشبّث برأيه مهدّدا بالانسحاب من الرّئاسة. وهنا أصبح وجود الشّقوق بيّنا، شقّ الغنّوشي وشقّ العريّض والمكّي. لكلّ تصوّره للحركة وحتّى للمجتمع. فالمواقف من مبادرة السّبسي حول حقوق المرأة لم تكن متناسقة بل كانت متناقضة في بعض الأحيان. وكذلك الأمر بالنسبة لقانون المصالحة، فقد تمّت مقاطعته من قبل الكثير من نوّاب النّهضة، وهي حركة غير مألوفة في حزب عرف بالانضباط الحزبي العسكري.
المواقف من الوضع في مصر أيضا عكست حجم المشاكل التي تهدّد وحدة الحزب: من يريد إقناع الطّبقة السياسيّة بتطوّر الحركة يتجنّب الحديث عن الإخوان المسلمين، في حين لا يخجل آخرون في التّعبير عن رفضهم لحكم السّيسي. بيان نعي مرشد الإخوان المسلمين الذي توفيّ مؤخّرا أبرز مثال على ذلك، فهو نصّ محتشم لم تذكر فيه النّهضة الانتماء السّياسي للرجل واكتفت بتصريحات عامّة. فكأنّه كتب عن مضض في سبيل إرضاء القواعد وبعض القياديّين.

عمليّة تجميل مؤقتة

اعتبرت عديد الأطراف السياسيّة أنّ الحديث عن تطوّر النّهضة مجرّد ذرّ للرّماد على العيون. وقد صدر هذا النّقد عن المعارضة، ولكن أيضا عن حلفائها في الحكم وعن الرّئيس نفسه. يشير الكثيرون إلى أنّ الإسلاميّين في مختلف البلدان متعوّدون على مثل هذه التمثيليّات التي تمكّنهم من الصّمود أمام ما يهدّد وجودهم، ثمّ يستأنفون نشاطهم بمواقفهم المتطرّفة والمهدّدة للنّمط المجتمعي.
ولقد تأكّد من خلال الانتخابات الأخيرة أن التونسيّ رافض للأفكار التي أتت بها النّهضة سنة 2011 وغير مستعدّ للتضحية بمكاسبه خاصّة تلك التي تتعلّق بالحقوق الفرديّة. فحاولت النّهضة التبرّؤ من هذه الأطروحات تدريجيّا سعيا منها إلى اعتلاء سدّة الحكم والكشف عن الوجه الحقيقي بعد ذلك.
كما يمكن أن تكون هذه المسرحيّة وسيلة ظرفيّة تمكّنها من الصّمود في وجه العاصفة التي عرفتها السّاحة الدوليّة التي لم تعد مؤيدة لوجود حركات تتبنّى مرجعيّة دينيّة.
رأي آخر يشير إلى أنّ هذا التطوّر الظاهريّ هدفه التغلغل في مؤسّسات الدّولة من إدارة وأمن والسّيطرة عليها إعدادا لليوم الذي تكشّر فيه الحركة عن أنيابها، وهو رأي غير مستبعد بما أنّها حاولت القيام بذلك في السّابق عن طريق أمنها الموازي.

ظنّت النّهضة أنّها بادّعائها المدنيّة ستستقطب النّاخبين الذين لم يصوّتوا لصالحها، لتعود بذلك إلى المرتبة الأولى التي افتكّها منها نداء تونس. إلاّ أنّ هذه الحيلة لم تنطل على التونسيّين بل أدّت إلى تناقص شعبيّتها، خاصّة بعد تخييب آمال ناخبيها بالتّحالف مع نداء تونس. فمن يعادي النّهضة لن يصوّت لصالحها أبدا حتّى لو صارت أكثر الأحزاب علمانيّة، وكذلك هو حال من يعادي نداء تونس. فالنّاخب التونسيّ للأسف يتشبّث برأيه حتّى وإن خُيّبت آماله. والدّليل على ذلك بقاء نفس الأحزاب في صدارة سبر الآراء رغم فشلها. خلاصة القول هي أنّ النّهضة خسرت من كان معها ولم تنجح في إقناع معارضيها.