صورة مقتطفة من فيلم “على كف عفريت” لكوثر بن هنية (مستوحى من قصة حقيقية)، في قاعات السينما بفرنسا إنطلاقاً من 18 أكتوبر

المخيال الذكوري يُجدد انتصاراته اليومية على القانون، في الميترو والحافلة وفي المدرسة والجامعة، . يأتي التحرش الجنسي والعنف كصيغتين لتثبيت سلطة الذّكر الاجتماعية، وكردة فعل غامضة ومتجذرة ضد القانون ومظاهر التحرر النسوي. التحديث الذي لم يكن نابعا من الحركة الداخلية للمجتمع، لم توازيه إعادة تشكيل للمجال القيمي والرمزي. ظل المجتمع متمسكا ببنيته الذهنية القديمة –رغم ادعاء التقدم الاجتماعي- تساعده في ذلك أجهزة الدولة والمنظومة الإعلامية المُهيمنة، لأن خطابها وإيديولجياتها هي من جنس الخطاب الاجتماعي السائد.

كانت النظرة الدونية للمرأة تتناسب مع رؤية اجتماعية وسيطة، تسيطر فيها سلطة الأب (الذكر) على جميع المجالات الثقافية والسياسية والاقتصادية. سيادة العقل الأخلاقي على المجتمع القديم جعل المرأة ترتبط بالمحظور الجنسي وبمقولة الشرف، والملايين من النساء في ذلك العالم ساهمن في تأمين تواصل النسل البشري على حساب كرامتهن ومصالحهن الخاصة. الأزمنة الحديثة -التي وُلدت من رحم الثورات القيمية والاجتماعية الهائلة- قلبت نظرة الإنسان لنفسه وللعالم، وجَرفت معها الكثير من الأوهام الأسطورية حول عدم اكتمال كينونة المرأة وعجزها الماهوي. ولكن في السياق التونسي  يبدو الأمر مُلتبسا، إذ يأتي الانخراط الاجتماعي في العالم الحديث منقوصا ومبتورا. فالناس يهضمون فكرة التقدم التقني والصناعي، إذ يستعملون أحدث وسائل الاتصال والبرمجة، ولكن بالمقابل يقاومون التحرر الاجتماعي ويبدون تحفظا إزاء الأفكار الجديدة التي لا أثر لها في تقاليد الآباء. هذه المفارقة ولّدت انكسارا بنيويا في المجتمع، يمكن أن نلحظه في حياة الأفراد على النحو التالي: يزدحم الفضاء العام بالكثير من الرجال والنساء، الذين يرتدون بدلات أنيقة ويجلسون في مقاهي ومطاعم عصرية ويستعملون هواتف ذكية، ولهم حسابات افتراضية في الميديا الاجتماعية، إلى غير ذلك من النشاطات…ولكن مع أول نزاع أو احتكاك مادي- لفظي، يُفسح المجال لخطاب اجتماعي قديم، مشحون بالإلغائية والعنف وبإرادة الهيمنة على الآخر.

من هنا تبدو فكرة “أنسَنة” العلاقة مع المرأة -بوصفها كينونة بشرية مستقلة وحرة وذات أهلية- فكرة مجهولة ولا تحظى بقابلية، لأن الذهنية العامة مازالت تنتمي إلى الأزمنة القديمة، رغم ما يبدو على الإنسان التونسي من مظاهر التحديث والمواكبة الشكلية للجديد. هذا الانكسار تعمّق تحت تأثير المقاربات السلطوية التي تبحث عن الجدوى ولا تفكر في التغيير البنيوي. يضاف إلى كل هذا خطاب إعلامي سائد، يعكف على تجديد العنف الاجتماعي بأشكال وأنماط مختلفة.

انتفاضة 2011 التي فجّرت المحظور السياسي، أظهرت إلى السطح الكثير من المكبوتات الاجتماعية والقيمية. ولئن شهد المجال السياسي إعادة تشكيل نسبية فإن البُنى الذهنية والرمزية تُرِكت للعراء، لينفتح المجتمع على وضع جديد صاخب ومتشنج وفيه الكثير من القلق على الذات والمستقبل. هذا السياق الذي أدى إليه انتقال موضوعي في علاقة الأفراد بالفضاء العام (الذي كان مصادرا طيلة عقود) تم استخدامه من طرف إعلام السلطة من أجل تعميم الخوف الاجتماعي وبث التوجس من حدث الثورة، وكان يظهر هذا الاستخدام في شكل مواد صحفية، موضوعها “الفضائح الجنسية” و”الخيانات الزوجية” و”التمرد القيمي”. المشكلة هنا لا تكمن في طرح ظواهر موضوعية كامنة في الواقع الاجتماعي، وإنما في زوايا التناول الاعلامي المحكومة باستراتيجيا الإنهاك القيمي للمجتمع، لأنها لا تساعد الناس على فهم عميق لمكبوتاتهم ومشاكلهم الحياتية وإنما تضعهم في حالة خوف دائمة من انهيار قيمي يتهددهم. وفي الكثير من الأحيان ينخرط الإعلام السائد في شرعنة العنف ضد النساء باسم الحفاظ على الحس المشترك وصون شرف العائلة.

العمل الإعلامي يوازيه حضور السلطة السياسية بمقارباتها الأمنية، التي تُكثف من أدوات الضبط الاجتماعي على حساب البعد التربوي. ويجري الرهان أيضا على جزرية القوانين في ردع العنف والتحرش الجنسي، انسجاما مع البحث عن الجدوى المرحلية دون التغيير الهيكلي. وفي الحقيقة تعارض السلطة القائمة هذا النوع من التغيير لأنه يهدد كيانها ويضع شرعيتها على محك المراجعة، لذلك تسعى إلى تثبيت الذهنية العامة عبر أجهزتها ومؤسساتها. في الأثناء تُسلم المقاليد القيمية للمجتمع إلى أنصاف الأميين و”نجوم الرأي العام” الموالين للنظام السياسي، الذين يرسخون بخطاباتهم الفقيرة والاختزالية الممارسات الاجتماعية القائمة على العنف ونفي الآخر.