المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

لم يكن الشاب التونسي محمد البوعزيزي يظنّ يوما أنه سيكون أيقونة لسلسلة ثورات لم تزعزع استقرار البلدان التي نشبت فيها فقط بل مسّت جوهر العلاقات الدوليّة. كلّ ما أراده المسكين هو بيع الخضار على عربته ليُعيل أسرته، ولا يوجد في ذلك من الغرابة شيء لأنه نموذج لعديد الشباب التونسيين الذين أُغلِقت في وجوههم كل أبواب الأمل وأصبحوا يراوغون الحياة من أجل البقاء. سواء كنت تعتبره بطلا أم تبغضه لما انجرّ عن فعله، من الإنصاف أن نقرّ بأن للبوعزيزي صفة اتسمت بالنّدرة في ذلك الوقت، وهي أنه فضّل الموت على أن يرضخ كما فعل الكثيرون، حتّى وان كانت ادّعاءات الشرطيّة بأنّ البوعزيزي تهجّم عليها حقيقة فإنّ ذلك لا يبرّر ردّة فعلها. ومن هنا كانت بداية النهاية. قام الشاب بإضرام النار في جسده تعبيرا عن احتجاجه بعد أن رفض المسؤولون الإصغاء إليه وأشعل بذلك فتيل الانتفاضات التي لم تخمد بعد نيرانها.

تأثير الدومينو

كانت هبّة التونسيين للشارع بعد حادثة البوعزيزي سابقة في منطقة اعتبرها العالم غير جديرة بالديمقراطية، وكان لها تأثير عميق على المستوى الإقليمي إذ احتذت بها شعوب عربية طال صمتها رغم نفاد صبرها. وهنا يأتي تأثير الدومينو عندما بدأت رؤوس الحكّام تتساقط واحدة تلو الأخرى، بدءا من تونس مرورا بمصر ثم ليبيا فاليمن وسوريا، وعلت أصوات تطالب بحرية طال انتظارها. إلا أن مآل هذه الثورات لم يكن واحدا، فرغم النجاح النسبي الذي عرفته تونس شرارة الربيع العربي، لم يكن الأمر مُماثلا في بقية البلدان التي لا يزال مصيرها مجهولا: حرب أهلية في كل من ليبيا واليمن، تواصل للاستبداد في مصر وحرب متعددة الأطراف في سوريا.

فكأنّ الربيع أضحى خريفا بظهور الجماعات الإرهابية التي ترتكب المجازر وتقيّد الأفراد باسم الدين، إذ وجدت في البلدان التي عمّتها الاحتجاجات أرضا خصبة لزرع تطرّفها. كانت أولى أهدافها سوريا بجعلها معقلا لها وأطلقت على نفسها اسم “الدولة” رغم أنها لا تتوفّر على أيّ من مقوّماتها ومارست فيها شتى أنواع الجرائم وأطلقت العنان لمُقاتليها لسفك الدّماء ونحر الرّقاب. أصبحت بذلك سوريا منطقة نزاع بين قوى دولية تريد كلّ منها بسط نفوذها على المنطقة غير عابئة بمصير شعب شُرّد وعاش الويلات. وأدرك المجتمع الدولي أن الحرب الباردة لم تنتهِ بسقوط الإتحاد السوفياتي بل احتدّت وأصبحت مكشوفة بتكوّن المعسكرات، شرقيّ يبدو أنّه يساند بشار الأسد إلى آخر رمق، وغربيّ يرى في تنحّيه الحلّ الأنسب. في هذه الأثناء واصلت التنظيمات الإرهابية جرائمها وسرعان ما امتدّت أيديها إلى عديد الأقطار العربية منها والغربية، ونفّذت على أراضيها عمليّات إرهابية راح ضحيتها أبرياء، وبالتالي لم تعد أية دولة في منأى عن الإرهاب.

لم يجد السوريّون أمام هذه المعاناة حلاّ سوى الرحيل أملا في العيش. استقبلتهم القارة العجوز في بادئ الأمر بالأحضان لكن سرعان ما صدّت عليهم أبوابها عندما بدأت أزمة الهجرة في الظهور، أزمة لم يكن لها مثيل في التاريخ المعاصر. كانت سببا رئيسيا في صعود قُوى اليمين المتطرف التي استغلّت رفض الشعوب الغربية للاجئين وتعالت أصوات عنصريّة تطالب بطرد كلّ من يهدّد هويتهم. من الطريف أن يكون سبب كل هذه التحوّلات صفعة تلقّاها بائع متجوّل لم يكن همّه سوى كسب بعض الدنانير ليقتات هو وعائلته. أستحضر وأنا أكتب هذه الكلمات “غافريلو برينسيب” ذا العشرين عاما الذي قام باغتيال ولي عهد النمسا، مما أدى إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى. بسطاء يغيرون مجرى التاريخ دون قصد.

على من يقع اللّوم؟

يتّجه البعض -خاصّة في المجتمع التونسي- الذين يرون أن الأوضاع كانت أفضل تحت الأنظمة السابقة إلى لوم محمد البوعزيزي وتحميله مسؤوليّة التداعيات السلبية للثورات وكأنه أراد أن يَقلب العالم رأسا على عقب عندما أضرم النار في نفسه. وقد وصل الأمر إلى حدّ النقمة على أفراد عائلته ونعتهم بشتّى الأوصاف مما أجبرهم على الرحيل أملا في طيّ صفحات الماضي. من السّهل دائما إلقاء اللّوم على الآخرين، فهل يعود ما نعيشه اليوم إلى حادثة البوعزيزي أم إلى عجز شعوب المنطقة على الاتفاق وإرساء مبادئ الحرية ؟

كل الثّورات هي نتيجة لتراكمات على مرّ السنين، تراكمات للاستبداد والظلم وقمع المعارضين وتهميش المجتمعات. الانتفاضة كانت آتية لا محالة سواء تسبب فيها البوعزيزي أم شخص آخر. فاللّوم إذا يقع على عاتق مجتمعات تضخمت فيها الأنا الفرديّة في غياب للمصلحة العامّة. نجاح الثّورات أم فشلها رهين إرادة الشعوب لقبول الآخر والتخلّي عن الأفكار البالية التي تحملها منذ قرون والتحلّي بقيم المواطنة والتسامح.
من الممكن أن نختلف في تقييم حادثة البوعزيزي وما تبعها، لكن من المهم الإقرار بأهمية دوره في إيقاظ شعوب طال نومها وجعلها تدرك أن الحكّام ليسوا مقدسات لا يجوز المساس بها. ربما يكون الوضع سيّئا اليوم لكنّ التغيير والبناء يتطلبان وقتا وإرادة جماعية وخاصة الوعي بأن “حريتك تنتهي عندما تبدأ حريّة الآخرين”.