تستند التقييمات الإعلامية والسياسية لميزانية 2018 على وثيقتين، تتمثل الأولى في ورقة موضوعها “إعداد مشروع ميزانية الدولة لسنة 2018″، بَعَث بها رئيس الحكومة إلى الوزراء وكتّاب الدولة والهيئات الدستورية والولاة ورؤساء البرامج العمومية في 07 جوان 2017. أما الوثيقة الثانية فتتمثل في وثيقة اقتصادية شاملة أطلِق عليها خارطة طريق، تتضمن البرنامج الاقتصادي والاجتماعي للحكومة في أفق 2020، وقد كُشف عنها في شهر سبتمبر المنقضي. شكّلت هاتان الوثيقتان منطلقا لبناء تصورات حول الإجراءت المالية المزمع اتخاذها في مشروع قانون المالية القادم، الذي لن يحيد في فلسفته العامة عن السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة. ولكن يبقى الرهان الحكومي مطروحا حول تسليط إجراءات جبائية واجتماعية جديدة على الطبقات المتوسطة والفقيرة، ومزيد الضغط على كتلة الأجور عبر سياسة التقاعد المبكر وتجميد الانتدابات في الوظيفة العمومية. التركيبة البشرية المستهدفة بهذه الإجراءات جعلت الاشتباك مع الاتحاد العام التونسي للشغل ضرورة سياسية، وهو ما جعل المواجهة معه تفصح عن نفسها قبل صدور موقفه الرسمي من المشروع المرتقب.

اتحاد الشغل وخلفيات الاستعارة العسكرية

شهدت الفترات السابقة مواجهات إعلامية مع الاتحاد العام التونسي للشغل، كانت تنتظم في شكل حملات يتزعمها فاعلون إعلاميون مُقرّبون من منظومة الحكم ومُعبّرين عن توجهاتها. ولكن تحوَّل جزء من هؤلاء الفاعلين إلى قيادات في حزب نداء تونس (نزار عياد، برهان بسيس، وسام السعيدي..) جعل واجهة الدعاية المضادة تنتقل من الحوامل الإعلامية المهيمنة إلى الحزب الحاكم نفسه. كان رجل دعاية النظام السابق برهان بسيس، الأقرب إلى لعب هذا الدور لأن تواجده الأصلي في التركيبة القيادية مربوط بالاحتياجات الدعائية لحزب نداء تونس. من هذا المنطلق كان المكلف بالشؤون السياسية الجديد أول المبادرين بفتح خطوط الاشتباك مع اتحاد الشغل، على قاعدة انتقاد دوره السياسي المكثف إزاء القرارات الحكومية، لينتهي إلى تشبيه القيادة النقابية بـ”العسكر” الذي غادر الثكنات وبات من الصعب إعادته إليها.

قياسا على الاستعارة التي نَظَمها برهان بسيس، فإن مطالبة الجنرالات بالعودة إلى ثكناتهم بعد الثورات من أجل التأسيس لحياة سياسية مدنية، تساوي في السياق التونسي حصر مجالات تدخل الاتحاد العام التونسي للشغل في نطاق المربع النقابي الصرف وتلجيم تأثيره السياسي، الذي يتجلى في معارضته للكثير من توجهات الحكم القائمة. من هنا نفهم أن المطلوب من منظمة الشغالين هو التخلي عن منطق المعارضة بمضمون مستقل وحامل لتوجهات سياسية واقتصادية كبرى، والاكتفاء بالمعارضة الجزئية للإجراءات الحكومية من داخل منظومة المفاوضات الاجتماعية. وهو ما عبّر عنه برهان بسيس عندما دعى الاتحاد إلى “مراجعة آليات تدخله وآليات شراكته مع السلطة السياسية”.

هذه الرسالة تقبّلها الاتحاد العام التونسي للشغل بوصفها أوامر لضبط مجالات الفعل النقابي، وهو ما جعل نور الدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل يصف برهان بسيس بـ”عَرّاب الأنظمة”، مشيرا إلى أن دور الاتحاد مربوط بالمصالح العليا للبلاد، وشبّهَه أيضا بـ”الكومندوس الذي يتدخل في المعارك الحقيقية”. إن الممانعة النقابية إزاء محاولات ضبط مجالات التدخل تدل على أن استمرار السياسة الدعائية –على المنوال الذي دشنه برهان بسيس- سيترتب عنها سياسيا مزيد من التنافر بين اتحاد الشغل ومنظومة الحكم وخصوصا بينه وبين حزب نداء تونس، الذي يلوح أنه مصمم على إعادة إدماج الحملات الدعائية السابقة ضمن خطابه الحزبي المباشر.

حكومة الشاهد بين ضغط الخيار والممانعة النقابية

رغم أن حكومة الشاهد لم تظهر إلى حد الآن على مسرح الخلافات -نظرا لأنها لم تعلن عن النسخة الرسمية لمشروع قانون المالية لسنة 2018- فإنها تعمل على وضع إجراءات جبائية واجتماعية للضغط على النفقات العمومية وتدارك العجز في الموازنات المالية، وكان من بين هذه الإجراءات الشروع في تنفيذ برنامج الإحالة على التقاعد المبكر بصفة طوعية، ولكن هذا البرنامج جُوبه بضعف استجابة الموظفين المعنيين نظرا لانعكاس هذه الآلية على مقدرتهم الشرائية (لم يتجاوز عددهم 3 آلاف في حين تطمح الحكومة إلى 10 آلاف). فشل هذا الإجراء الذي يُدرج تحت عنوان سياسي اسمه “الضغط على كتلة الأجور”، سيجعل حكومة الشاهد تولي شطرها الآخر تجاه الإجراءات الجبائية. وانسجاما مع الخطط الحكومية الموضوعة سلفا فإن التدخل الجبائي الوحيد الذي تطرحه الحكومة على نفسها هو ترفيع الأعباء الجبائية على الطبقات المتوسطة والفقيرة، في العديد من القطاعات.

هنا تكمن إحدى أوجه الخلاف مع الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يدفع نحو اتخاذ سياسات جبائية ضد المتهربين من دفع الضرائب، وهم يمثلون أساسا أوساط المال والأعمال، وهو بالتالي يدعو إلى تشريك الأقلية الاجتماعية في تحمل العبء الجبائي. ولكن يبدو أن حكومة يوسف الشاهد لا تنوي الذهاب في هذا الخيار، مكتفية بالبحث عن مخارج تفاوضية مع اتحاد الشغل على قاعدة الحفاظ النسبي على استقرار الوضع المعيشي للأجراء، ولكن إلى أي مدى ستنجح هذه السياسة في ظل المعارضة التي يبديها الاتحاد للتوجه الجبائي الرسمي برمّته؟