لم يكن لمبادئ الباب الثاني من الدستور، وهو باب الحقوق والحريات صدًى في التشريعات التي صدرت عن مجلس نواب الشعب في السنة البرلمانية المُنقضية. إذ لم يصادق المجلس سوى على قانون واحد يفعّل الفصل 46 من الدستور المتعلق “بالتزام الدولة بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة والعمل على دعمها وتطويرها” وذلك عبر سن قانون القضاء على العنف ضد المرأة. أما بقية المبادئ التي عبر عنها 27 فصلا (من الفصل 21 إلى الفصل 49 ما عدى الفصل 46 المذكور) فلم تكن التشريعات في مستوى تحقيقها، خاصة فيما يتعلق بمنع التعذيب المنصوص عليه في الفصل 23، والفصل 38 الذي نص على واجب الدولة في تدعيم جودة الخدمات الصحية العمومية.

سبق أن قامت الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان بالتعاون مع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بندوات مكثفة بعيد المصادقة على دستور 27 جانفي 2014، وذلك بالعمل على إيضاح النقاط الأساسية المتعلقة بحقوق الإنسان الواردة فيه وضرورة وضع برنامج تشريعي واضح كي يتم تفعيل تلك المبادئ. وفي سياق متصل كان هذا الموضوع محور عمل ورشة الخبراء التي أقامتها الفدرالية بالتعاون مع الأساتذة حفيظة شقير ومحمد صالح بن عيسى وحمادي الرديسي وإقبال بن موسى بعنوان “ضمانات حقوق الإنسان: من الدستور إلى التشريعات” في 6 و7 جوان 2014 والتي تلتها ندوة وطنية يومي 11 و12 نوفمبر 2014، وقد استهدفت الورشة مسألة تفعيل الدستور في الباب المتعلق بالحقوق والحريات، خاصة مسائل حقوق التعبير والرأي والضمير والمساواة وعدم التمييز بين الجنسين واستقلالية القضاء والحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

مكافحة الفساد والهيئات الدستورية: ارتباك تشريعي

لم تخف الهيئات الدستورية الرئيسية الثلاثة، وهي الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري، استنكارها للتعامل غير المتوقع من قبل الأغلبية النيابية فيما يتعلق بالتصويت على القوانين التي تتعلق بها. فبالرغم من إقرار الدستور التونسي في بابه السادس استقلالية الهيئات الدستورية ماليا وإداريا وضمان شخصياتها القانونية والمعنوية، إلا أن التشريعات لم تكن في مستوى المأمول. وسبق أن صرح شوقي الطبيب، رئيس هيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد لموقع “نواة” بأن القانون الأساسي المتعلق بالأحكام المشتركة بين الهيئات الدستورية المستقلة الذي ينظم عملها “يضرب استقلاليتها التي بقيت خاضعة للسلطة التنفيذية والتشريعية، وهي هيئات تخضع أيضا إلى رقابة قضائية ثقيلة” على حد تعبيره.

وقد غلب الطابع السياسي على التشريعات المُتعلقة بالهيئات الدستورية نظرا لسعي الطبقة السياسية إلى إدامة وضع الهيئات الدستورية تحت هيمنة الكتل الحزبية. في هذا السياق أكد شفيق صرصار الرئيس السابق للهيئة العليا المستقلة للانتخابات لموقع نواة أن “ضمان استقلالية الهيئات ليست في صالح الجميع على المستوى السياسي وهذا تفسيري لموافقة النواب على القانون، لأن إبقاء الهيئات تحت أعين السياسيين سوف يمكنهم في المستقبل من مواصلة السيطرة عليها بشكل أو بآخر”.

الجماعات المحلية والأحكام الانتقالية بابان منسيان

ورد في الفصل 133 من الباب السابع للدستور والمتعلق بالجماعات المحلية “تدير الجماعات المحلية مجالس منتخبة. وتُنتخب المجالس البلدية والجهوية انتخابا عاما حرا مباشرا سريا نزيها وشفافا”. ومن المفارقات اليوم وقوف مجلس نواب الشعب أمام الفراغ التشريعي الذي تركوه عندما حددت هيئة الانتخابات تاريخ 17 ديسمبر 2017 كموعد للانتخابات البلدية مما استوجب ارجاءها لأجل غير محدد.

ويتكون الباب السابع من الدستور والمتعلق بمجلة الجماعات المحلية من 12 فصلا تمتد بين الفصل 131 و142، ولم تُفعَّل أي من تلك الفصول رغم الاستعدادات السياسية والتقنية والتنظيمية للعديد من الأحزاب للانتخابات البلدية. و لم تكن تصريحات قيادات الأحزاب الكبرى (النهضة والنداء) في أنها ملتزمة بهذا الموعد وتعمل على ضوئه سوى مناورات سياسية لعلمها بأن مجلة الجماعات المحلية لن يتم نقاشها والمصادقة عليها قبل الانتخابات.

وقد سبق أن أشارت شيماء بوهلال، رئيسة جمعية بوصلة، في تصريحات لها أن “الوقت لا يزال كافيا للوصول إلى المصادقة على مجلة الجماعات المحلية” مضيفة أن “المسؤولية يتحملها نواب البرلمان”. وقد اقترحت جمعية البوصلة كشافا زمنيا يتوافق مع مواعيد نقاش فصول مجلة الجماعات المحلية وكل لجنة برلمانية واختصاصها في نقاش عدد من الفصول المعينة. وجاء في هذا الكشاف الذي حمل اسم “خطة مناقشة مشروع مجلة الجماعات المحلية صلب مجلس نواب الشعب” ستة لجان، وهي لجنة تنظيم الإدارة (193 فصل) لجنة التشريع العام (54 فصل) لجنة المالية (111 فصل) لجنة الحقوق والحريات (5 فصول) ولجنة النظام الداخلي (فصلين) ولجنة الصناعة (12 فصلا). كل لجنة تناقش فصولها ثم تناقش مع الخبراء والمبادرين بالقوانين التعديلات المحتملة ثم تُحال تلك النقاشات إلى مرحلة إعداد التقارير حول الفصول المحالة للجان، وذلك طيلة شهر سبتمبر. وخلال شهر أكتوبر يتم جمع تقارير اللجان وفي شهر نوفمبر يتم التصويت على المجلة فصلا فصلا وتدخل حيز التنفيذ، لنصل إلى شهر ديسمبر وقد تم تفعيل الباب السابع المتعلق بالسلطة المحلية في شكل انتخابات بلدية.

كما تجدر الإشارة إلى أن الفصل 5 من الباب العاشر من الدستور والمتعلق بالأحكام الانتقالية ينص على ضرورة إرساء مجلس أعلى للقضاء في أجل أقصاه ستة أشهر من الانتخابات التشريعية ومحكمة دستورية في أجل أقصاه سنة من الانتخابات، لكن الدّورة النيابية تدخل سَنتها الرابعة ولم يتم بعث أي من تلك المؤسسات المنصوص عليها في الدستور.

يُلاحظ أن أداء مجلس نواب الشعب في السنة البرلمانية الأخيرة لم يكن مهتما بمسألة تفعيل الدستور بالشكل المطلوب، بالرغم من أن العمل على تفعيله بتدرج يُعد من إحدى المهام المركزية للبرلمان للوصول إلى اكتمال العمل بالدستور واقعيا وبشكل كامل في آخر الدورة النيابية الحالية التي تنتهي سنة 2019. وقد اهتم البرلمان بالنقاش والمصادقة على القوانين التي غلبت عليها المشاريع المقدمة من قبل الحكومة، الأمر الذي جعل المجلس يأخذ شكل الغرفة التشريعية الملحقة بها، دون أن يتفطن إلى أن سلطته توازي سلطة الحكومة في المراقبة والمحاسبة وأيضا تفعيل مبادئ الدستور وبناء مؤسسات الجمهورية الثانية.