هذا الواقع المُعقّد يقسّم الفساد إلى جزأين: جزء رسمي ومُمَؤسس، ينقصه فقط الاعتراف الحكومي الصريح، وهو منتشر في المراكز الحضرية الكبرى التي يتكثف فيها حضور الدولة ومؤسسات الاقتصاد ”المُهيكل“. وجزء آخر ناشط بكثافة على التخوم، يتغذى من التهريب والتجارة الموازية، ويندرج ضمن ما بات يُعرف بالاقتصاد الموازي أو ”غير المُنظم“. ويظل الفصل بين ”الفسادين“ إجرائيا، لأنهما يتشابكان ويخضعان لعلاقات التأثير المتبادل.

حرب استعراضية ضد فساد مُعقد

تتألف التركيبة البشرية التي استهدفتها حملة الإيقافات من المهرّبين الذين ينشطون في التجارة الموازية، مُشكّلين بذلك ما يعرف بظاهرة الاقتصاد الموازي، الذي يكلّف الدولة سنويا –حسب دراسات متخصصة- ما قدره 220 مليون دينار من الضرائب على القيمة المضافة غير المستخلصة. هؤلاء المُهربين الذين استفادوا من هشاشة الاقتصاد الرسمي وضعف مردوديته الاجتماعية، تسعى حكومة يوسف الشاهد إلى محاربتهم بمقتضى قانون الطوارئ، وبالتحديد الفصل 5 من الأمر عدد 50 لسنة 1978 المؤرخ في 26 جانفي 1978، الذي يسمح بوضع ”أشخاص خطيرين“ تحت الإقامة الجبرية. اللجوء إلى هذا القانون يكشف الطابع الآني للحملة التي لم تفرزها استراتيجيا وطنية شاملة لمكافحة التهريب، كما يعكس الفراغ التشريعي في مكافحة الفساد الذي ساهمت في صنعه الأغلبية البرلمانية الحاكمة بطريقة ممنهجة عبر سياسة التسويات الحزبية وتبجيل مصالح الحكم على حساب المصلحة العامة.

تدابير الإقامة الجبرية –كإجراء تحفظي خاص- أعدمت إمكانية الشروع في تفكيك ”الفساد التهريبي“ كمنظومة متكاملة، لأن إيقاف الأباطرة كان شبيها بالشجرة التي تحجب الغابة، والمحجوب أساسا هو الارتباط بين أجهزة الدولة والأنشطة التهريبية، خاصة وأن الموقوفين تلاحقهم تهم التورط في جرائم ديوانية والتوريد لفائدة الغير باعتماد تصاريح مغلوطة. وهنا تبرز السردية الحكومية حول محاربة الفساد منقوصة لأنها لم تتطرق لدور الماسكين بالأجهزة في تغذية هذه الظاهرة، ولم تشمل حملة إيقاف المهربين حملات مماثلة في مؤسسات الدولة، التي تَلوح إلى حد الآن عنصرا مُقاوما لكل عمل يهدف إلى مكافحة الفساد الإداري والمالي، وهو ما يتطابق مع تصريحات أدلى بها أمس شوقي الطبيب، رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، قال فيها  أن ”مسؤولين وموظفين في أجهزة وإدارات الدولة يعارضون ويقاومون جهود مكافحة الفساد“.

من جهة أخرى تبرز معضلة بنيوية أخرى لا تعيرها السياسات الحكومية أهمية، وهي الانخراط المجتمعي في هذه الظاهرة، خصوصا في دواخل البلاد وعلى المناطق الحدودية. هذه المجالات السكانية تَكثَّف فيها الانجذاب المواطني للعمل في الاقتصاد الموازي بسبب السياسات التنموية العرجاء، وغياب اقتصاد وطني يضمن حد أدنى من العدالة بين الجهات والفئات. وقد كشفت الدارسة التي أشرنا إليها سابقا أن الاقتصاد الموازي تميز ”بمردوديته التشغيليّة الكبيرة، حيث استطاع خلال سنة 2012 توفير 309320 موطن شغل مقابل 93180 وظيفة في القطاع المهيكل“. ويعد هذا الرقم حصيلة لانعدام خيار رسمي يربط الاقتصاد الرسمي بحاجيات المجتمع، وإنما يضعه على ذمة أقلية اجتماعية مستفيدة، في حين تجد الأغلبية نفسها مرتبطة بالمظاهر الهامشية على غرار التهريب والتجارة الموازية.

الفساد ”الرسمي“ المُشرعن

سبق وأن قال رئيس الحكومة يوسف الشاهد في أحد مداخلاته بأن ”العدو في الحرب عادة ما يكون مكشوفا ولكن في الفساد يبدو غير ذلك“. هذا الخطاب الذي يُوحي بأن الحكومة تُحارب عدوا أسطوريا، يندرج في سياق التضخيم الدعائي للمجهودات الرسمية وجر الرأي العام إلى عدم  المطالبة بنتائج ملموسة، طالما أن الفساد تديره كائنات خارقة. في الأثناء تكشف الوقائع والملفات -التي تنشرها بعض وسائل الاعلام والمنظمات المختصة وتذيعها أحيانا الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد- عن وجود فساد ”ممؤسس“، تحتضنه أجهزة الدولة ومؤسسات الحكم، ولهذا السبب يبدو هذا الفساد أكثر تنظيما ووضوحا من سابقه، لأنه مُندمج في النظام السياسي وتعبر عنه الخيارات الحكومية من خلال تغاضيها عن فتح ملفات الفساد البنكي والإداري، وعدم جديتها في مقاومة التهرب الضريبي الذي يشكل السمة البارزة للاقتصاد المُهيكل. كما يجد إسنادا تشريعيا من الكتلة البرلمانية الحاكمة التي لم تقدم قوانين فعلية لمكافحة الفساد، بل تقف على النقيض من ذلك عبر تعزيز ثقافة الافلات من العقاب، التي بلغت ذروتها في المصادقة على قانون المصالحة الإدارية.

هذا الفساد أنتج واقعا اقتصاديا قائما على الامتيازات وهيمنة الاحتكارات، اقتصاد تتحكم فيه شبكات المصالح المتوزعة بين قطاعي المال والأعمال وبين مؤسسات الدولة والحكم. وهو الذي يضغط على الخيارات الاقتصادية العامة ويحدد اتجاهاتها. هذا الفساد الذي يحظى بمشروعية -غير معلنة- يحمل بعض سمات الفساد الموازي، نظرا لطابعه المافيوزي ومشاركته في معضلة التهرب الضريبي التي تتمدد على حساب المضاعفة المتواترة للأداءات الضريبية على الطبقات الوسطى والفقيرة. ويظل الفارق الرئيسي بين الفسادين، أن الفساد الرسمي أكثر اندماجا في بنى الاقتصاد المهيكلة وفي مؤسسات الدولة والحكم ويكافح من أجل فرض قاعدة تشريعية ملائمة له، في حين أن الفساد الموازي متأثر بالتركيبة السيكولوجية والاجتماعية للمهرب الذي لا يقيم وزنا للقاعدة القانونية، ويفضل العمل من خارج المؤسسات، ويراهن على بعض المتعاونين والمرتشين.