التزمت وزارة العدل منذ مارس 2017 بجملة من القرارات المُتعلّقة بتأهيل القضاء الإداري كان قد أعلن عنها وزير العدل غازي الجريبي في إطار انطلاق الاستعدادات لتنظيم الانتخابات البلدية. وقد شملت هذه  القرارات إحداث 12 دائرة ابتدائية جهوية وأربع دوائر استئنافية بالمحكمة الإدارية، وتوفير وتهيئة المقرّات المناسبة لتركيزها وتأهيلها بالموارد البشرية اللازمة من خلال انتداب 60 قاض إداري وفتح مناظرات لتعزيز طاقمها من كتبة وعملة و”تسخير جميع الإمكانيات المادية واللوجستية الضرورية لتنظيم الانتخابات البلدية قبل موفى سنة 2017“.

وقد مثّلت الدوائر الجهوية للمحكمة الإدارية شرطا رئيسيا لتنظيم الانتخابات البلدية وفق ما ينصّ عليه القانون الانتخابي الذي يوكل النظر في نزاعات الترشّح ونزاعات النتائج الانتخابية للدوائر الابتدائية والاستئنافية للمحكمة الإدارية.

“إلى حين صدور القانون المتعلّق بتنظيم القضاء الإداري واختصاصاته والإجراءات المتّبعة لديه والنظام الأساسي الخاصّ بقضاته، وتولّي المحاكم الإدارية الابتدائية المنصوص عليها بهذا القانون لمهامها، تتعهّد دوائر ابتدائية بالجهات متفرّعة عن المحكمة الإدارية يتمّ إحداثها طبق الفصل (15 جديد) من القانون المتعلّق بالمحكمة الإدارية، بالاختصاص المسند للمحاكم المذكورة.” – الفصل 174 مكرّر من القانون الانتخابي

ويعتبر هذا التنصيص القانوني سدا للفراغ الدستوري الذي ينصّ على إحداث محاكم جهوية إدارية ضمن ما يعرف بفلسفة إرساء “لامركزية القضاء”. بالإضافة إلى أهمية تمكين المحكمة الإدارية وفروعها الجهوية من سلطتها الرقابية على الإدارات الجهوية والمحلية وفق ما ينصّ عليه الدستور والقوانين المصاحبة على غرار مشروع القانون المنظّم للجماعات المحليّة ويليه لاحقا مشروع القانون المنظّم للسلط اللامحورية.

تعهّدات في انتظار التنفيذ

تفعيلا للقرارات الحكومية السابق ذكرها، صدر بتاريخ 25 ماي 2017 أمر حكومي عدد 620 لسنة 2017 متعلّق بإحداث دوائر ابتدائية متفرّعة عن المحكمة الإدارية في كلّ من نابل وبنزرت والكاف وسوسة والمنستير وصفاقس وقفصة وقابس ومدنين والقصرين وسيدي بوزيد والقيروان وضبط نطاقها الترابي. غير أنّه وقبيل انطلاق عملية قبول الترشّحات مابين 19 و29 سبتمبر الجاري، ورغم ضغط هائل من مختلف المتدخّلين في المسار الانتخابي المُطالبين باستكمال شروط الانتخابات، لم يتمّ بعد تعليق اللافتات المُعلنة عن وجود دوائر المحكمة الإدارية بهذه الجهات.

هذا وتؤكّد الحكومة، وفق بلاغ نشرته الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات يوم 7 سبتمبر 2017 حول المباحثات بين الطرفين في جاهزية هذه الدوائر، أنّه “تمّ توفير 12 مقرّا منها ما هو على ملك الدولة ومنها ما هو على سبيل الكراء“، بالإضافة إلى “إتمام الإجراءات المتعلّقة باقتناء المقرّات بالتنسيق مع المحكمة الإدارية، وبما يستجيب للمعايير الدولية بهذا الخصوص“. كما تعهّد المُتحدّث باسم الحكومة في نفس البلاغ باستكمال تجهيز هذه المقرّات بالحواسيب والأثاث والمعدّات والمستلزمات الإدارية والمكتبية في أجل أقصاه موفى سبتمبر 2017، على أن تكون هذه الدوائر الابتدائية “جاهزة تماما” قبل نهاية نفس الشهر وقبل انطلاق فترة النزاعات المتعلّقة بالترشّحات والإعلان عن القائمات المقبولة للمترشّحين للانتخابات البلدية في أجل أقصاه 5 أكتوبر 2017.

هذه التعهّدات التي تلتزم بها الحكومة وسط ضغط الموعد الانتخابي مازالت لم تجد طريقها للتنفيذ. فلئن انطلقت أشغال التهيئة في دائرة سوسة لإحداث قاعة الجلسات -على سبيل الذكر لا الحصر- فإنّ التفويت في المقرّ المزمع بدائرة بنزرت لم يتمّ بعد وقد صدر فيه قرار بالإخلاء مؤخّرا. قرار آخر بالإخلاء شمل مقرّ دائرة سيدي بوزيد تمّ تنفيذه قبل الانطلاق في أعمال التهيئة. أمّا أعمال التأثيث فلم تنطلق بعد بكافّة الدوائر. هذا ولا تخفي الحكومة ضعف الموارد المالية الذي يشكّل عائقا كبيرا وراء كلّ هذا التعطيل، خصوصا وأنّ موارد تأهيل هذه الدوائر القضائية لم تُدرج ضمن الميزانية العامّة لسنة 2017.

الدوائر الجهوية للمحكمة الإدارية: بأي طاقم بشري؟

أُعلِن في وقت سابق عن انتداب 60 قاض إداري بتاريخ 30 أوت 2017 وعرضهم على أنظار المجلس الأعلى للقضاء في انتظار صدور الأوامر الرئاسية المتعلّقة بتسميتهم. القضاة الجدد تمّ انتدابهم عبر مناظرة خارجية شارك فيها 800 مترشّح. وعلى الرغم من تحديد 10 جويلية 2017 موعدا نهائيا لتقديم نتائج الفرز فإنه لم يتمّ الإعلان عن النتائج إلا في شهر أوت، إضافة إلى الضبابية التي صاحبت عمليات الفرز والقبول وعدم نشر قائمة المقبولين. وقد أصدر اتحاد القضاة الإداريين، في هذا السياق، بيانا في 8 أوت 2017 يستنكر فيه “الطريقة المعتمدة في الإعلان عن النتائج الأوّلية للمناظرة” ويحمّل لجنة المناظرة “كامل المسؤولية عن هذا الخطأ الفادح وعن خرقها للآجال المعقولة التي كان يتعيّن خلالها نشر معايير اختيار المترشحين”.

من جهتها، تعتبر جمعيّة القضاة التونسيين أنّ الإشكال الذي جدّ خلال المرحلة الأولى من المناظرة والمتعلّق بنشر قائمة المقبولين أوّليا لاجتياز الاختبار الشفاهي لم يمثّل تجاوزا خطيرا وقد فتح نقاشا قانونيا وجدت لجنة المناظرة المعنية نفسها على إثره غير مُلزمة. وفي تصريح لنواة، لم يعتبر القاضي حمدي مراد، الكاتب العامّ للجمعية، أنّ المناظرة شملت أي خرق واضح لمبدأ المساواة، بل على العكس يرى أنّ في النتائج النهائية “مؤشّرا إيجابيا” باعتبارها لم تخضع لأي شكل من أشكال المحاباة. في المقابل لا ينكر كاتب عامّ الجمعية تخوّفهم من التأخير في تأهيل الدوائر الجهوية للمحكمة الإدارية عموما واستكمال بقية المناظرات.

هذا ويستوجب استكمال الطاقم البشري للدوائر الجهوية المعنيّة سلسلة من الانتدابات الأخرى، حيث تمّ فتح 3 مناظرات خارجية لانتداب كتبة وعملة وتقنيين بالسلك المشترك بالإدارات العمومية. هذه المناظرات لم يتمّ الانتهاء منها بعد، ومن المتوقّع أن تتسبّب في مزيد التأخير في عمليّة تأهيل الدوائر الجهوية ومباشرتها لمهامها في أقرب الآجال. وحدة الاتصال بالمحكمة الإدارية، لم تجد غير سياسة الطمأنة، إذ أكّد رئيس وحدة الاتصال بالمحكمة الإدارية عماد الغابري لموقع نواة أنّ “14 و18 سبتمبر هي الآجال المُحدّدة لإجراء هذه المناظرات واستكمال احتياجات الدوائر المعنية من موارد بشرية”.

مثّل ضغط الروزنامة الانتخابية حافزا لتفعيل القرارات الوزارية المتعلّقة بتفريع دوائر عن المحكمة الإدارية بالجهات. قرارات ذات أهمية قصوى من حيث مساهمتها في تقريب العدالة من المواطنين، لكنها تبقى رهينة ضعف الموارد المادية والبشرية، لتظلّ حتّى هذه اللحظة مجرّد تعهّدات لم تجد طريقها للتنفيذ وإرساء هياكل تُكرّس الدور الرقابي للقضاء على الإدارة.