استقالة فاضل عبد الكافي الذي يشغل وزارتي الاستثمار والتعاون الدولي والمالية بالنيابة، أعاد مسألة التحوير الوزاري إلى واجهة الحياة السياسية. لتصبح الدعوة إلى إجراء تغيير حكومي مَطلبا مشتركا ترفعه جل الأحزاب السياسية، خصوصا مكونات الإئتلاف الحاكم. من جهته انطلق رئيس الحكومة يوسف الشاهد في مشاورات حول ملامح التحوير المُرتقب، كانت بدايتها التوجه أمس الاثنين إلى رئاسة الجمهورية من أجل تهيئة المشروعية السياسية للمقترحات الحكومية والخفض من ضغط الأحزاب الحاكمة.

تأتي المشاورات حول التحوير الوزاري في ظل سياق سياسي تعمّقت فيه التناقضات داخل تركيبة الحكم. ويمكن حصر هذا التناقض في طرفين رئيسيين: الأغلبية الانتخابية لسنة 2014 -التي تمثلها حركة النهضة ونداء تونس- والتي تنظر للتحوير الوزاري  كشرط ضروري لإعادة التموقع وفقا لحصيلة صندوق الاقتراع. على طرف التناقض الثاني يقف يوسف الشاهد ومن خلفه الحزام الوزاري الجديد الذي يبحث عن مشروعية من خارج خط التوافق الندائي- النهضاوي.

الشاهد أمام إكراهات النهضة والنداء

الدعوة إلى تغيير تركيبة حكومة الشاهد، شكّل مطلبا رئيسيا لقيادة حركة نداء تونس منذ بداية شهر ماي الفارط، خاصة بعد إقالة كل من وزير التربية ناجي جلول ووزيرة المالية لمياء الزريبي، وكان الهدف المُعلن من هذه المطالبة سد الشغورات الحكومية التي خلفتها الإقالة. تَراجَع الموقف الندائي قليلا إلى الوراء في خضم الإيقافات التي شنتها الحكومة ضد عدد من المتورطين في الفساد، وقد انغمست قيادة النداء في تحصين البيت الداخلي من الاهتزازات التي قد تخلفها الحملة الحكومية نظرا لارتباط قادتها ببعض الموقوفين، مُرجئة بذلك مطلب التغيير الحكومي إلى حين.

ارتباط “الحملة على الفساد” باسم يوسف الشاهد وسعيه إلى توظيفها من أجل تعزيز رأسماله السياسي، وَضَعه في صراع جديد مع قيادة حزبه، إذ لم يكن لهذه الأخيرة إشعاعا في “محاربة الفاسد”، بل طالتها الإدانات في بعض الأحيان. من هذا المنطلق لوّحت القيادة الندائية مجددا بورقة التحوير الوزاري من أجل معالجة الانعكاسات السياسية والرمزية للحملة الحكومية وكبح نزعة الإثراء السياسي الخاص لرئيس الحكومة على حساب مصلحة القيادة.

هذه الاستراتيجيا لن تصبح نافذة إلا عبر تغيير التركيبة الحكومية، الذي تعتبره قيادة نداء تونس شرطا ضروريا لإعادة القيمة السياسية لنتائج انتخابات 2014. وتبدو هذه الحجة في حقيقة الأمر طعنا في شرعية حكومة الشاهد، لأن قيادة حزبه تعرف –قبل غيرها- أن هذه الحكومة لم تأت بها صناديق الاقتراع، وإنما كانت حصيلة مسار سياسي (وثيقة قرطاج) أدى إليه السعي إلى إنقاذ منظومة الحكم من أزمات التموقع الحزبي التي شهدتها حكومة الحبيب الصيد. علاوة على هذا فإن الاستناد إلى نتائج انتخابات 2014 يعكس تهافت القيادة الجديدة للحزب على السلطة، لأن نداء تونس الذي فاز في الانتخابات الفارطة تحول منذ ذلك الوقت إلى “نداءات” وجماعات مُتحاربة على الحكم، حيث شهد حالة انقسامية أضعفت وحدته التنظيمية وشتّتت رصيده الانتخابي والسياسي على أكثر من كيان وشخصية.

سعي القيادة الندائية إلى إعادة صياغة التركيبة الحكومية على ضوء طموحاتها السلطوية أظهر تقاطع مع حركة النهضة التي تدعو هي الأخرى إلى تحوير وزاري، مُغَلّف بسد الشغورات الوزارية ورد الاعتبار للحزبين الكبيرين (النداء والنهضة) ولكنه مدفوع بالخشية من تنامي النزعة الاستقلالية-التوظيفية لدى يوسف الشاهد وسعيه إلى توسيع تحالفات الحكم من خلال تقريب الأحزاب الصغيرة على غرار الجمهوري والمسار وآفاق تونس. وعلى هذا الأساس انبثقت الدعوة التي أطلقها رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، والتي تلزم يوسف الشاهد بالاختيار بين البقاء على رأس الحكومة أو الترشح للانتخابات الرئاسية 2019.

الأقلية الحكومية تحتمي بوثيقة قرطاج

تطويق الإثراء السياسي لرئيس الحكومة على حساب حزبي النداء والنهضة يَحمل معه أيضا استهدافا للأحزاب التي تملك أحجاما انتخابية صغيرة ولكنها برزت مؤخرا كمؤثر في صناعة القرار الحكومي، وفي مقدمتها الحزب الجمهوري. ورغم أن الدعوة إلى مراجعة المشاركة الحكومية للحزب الجمهوري تعتبر قديمة، فإنها تكثفت بعد بروزه كمساند قوي لحكومة الشاهد في “الحملة ضد الفساد” وبروز وزيره إياد الدهماني –وزير العلاقة مع مجلس نواب الشعب- كناطق باسم التوجهات الحكومية. وكل هذا على حساب أحزاب الأغلبية الانتخابية التي اختارت المساندة المتحفظة (النهضة) أو المعارضة الباردة (نداء تونس).

الحزام الوزاري المحيط بيوسف الشاهد –الذي أبرزته الحملة الحكومية على الفساد- تَوسّع ليشمل أحزاب أخرى على غرار آفاق تونس الذي يمثله وزير البيئة والشؤون المحلية رضا المؤخر، وشخصيات “مستقلة” على غرار وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي ووزير الداخلية الهادي مجدوب ووزير العلاقات مع المجتمع المدني والهيئات الدستورية المهدي بن غربية. هذا التوسع شكّل مصدر قلق للحزبين الكبيرين لأن تطوره في اتجاه أكثر صلابة وتماسك من شأنه أن يعيد تشكيل منظومة الحكم على أساس جديد يخدم الرصيد السياسي لهذه الأحزاب والشخصيات ويعطي شرعية جديدة لرئيس الحكومة من خارج منطق الولاء لـ”منظومة التوافق”، التي تديرها حركة النهضة والقيادة الجديدة لنداء تونس.

هذا الحزام الوزاري المُلتف حول يوسف الشاهد والذي يمثل أقلية في تركيبة الحكم –رغم تعاظم تأثيره- يسعى إلى حماية نفسه من خلال العودة إلى وثيقة قرطاج كإطار مرجعي ينظم العلاقة بين أحزاب الإئتلاف الحاكم وهو ما عبر عنه عصام الشابي، الأمين العام للحزب الجمهوري، الذي ربط التحوير الوزاري باحترام الكفاءة في التعيين والالتزام بما جاء في وثيقة قرطاج. وتُشكل هذه الوثيقة حجة جديدة تُرفع أمام حجة الصندوق التي يرفعها أساسا حزب نداء تونس، إضافة إلى أن التحرك من داخل اتفاقات قرطاج من شأنه أن يجلب للأقلية الحاكمة تعاطف المنظمات المؤثرة في الحياة السياسية على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة.