نواة: من وزارة الداخلية إلى وزارة الشؤون المحليّة، هل انعكس هذا التغيير على مستوى طبيعة العلاقة بين الإدارة المركزية والجماعة المحلية؟

من هو مختار الهمامي ؟

مختصّ في الاقتصاد ورئيس الهيئة العامّة للإشراف والمرافقة والمصادقة على اللامركزية التابعة لوزارة الشؤون المحليّة والبيئة. سبق له أن شغل العديد من الخطط الحكومية من بينها، خطّة مدير عامّ للجماعات المحلية التابعة لوزارة الداخلية، ومدير المالية المحليّة صلب وزارة التنمية والتخطيط، كما شغل منصب مدير عامّ مركز التكوين ودعم اللامركزية في 2012.

مختار الهمامي: خضعت الجماعات المحليّة لإشراف وزارة الداخلية منذ عقود لتتمّ مراجعة هذه العلاقة في الدستور
المصادق عليه سنة 2014. على الرغم من بدأ الخطوات الأولى لفكّ الارتباط مع وزارة الداخلية، لكن من الضروري المصادقة على الإطار القانوني الجديد وكافّة القوانين المصاحبة له لاستكمال بقيّة المسار، كما يجدر الفصل بين اللامحورية واللامركزية حتى يكون التغيير ملموسا بشكل أوضح، إذ كان للوالي صلاحيات واسعة تشمل التدخّل والإشراف على البلديات.

قبل الخوض في تفاصيل مشروع اللامركزية، ماهو تقييمك لتقدّم المشروع بشكل عامّ؟

اللامركزية ليست مجرّد نصّ تشريعي، إذ لا يجب اختزالها في مجلّة الجماعات المحلية كما يصوّر البعض. اللامركزية هي مشروع تدريجي تمّ التخطيط له منذ سنوات، ومن الطبيعيّ أن يحتاج حيّزا من الزمن لتركيزه وترسيخه قبل بلوغ الأهداف المرجوة أو تحقيق نتائج ملموسة. فعلى المستوى القانوني ما يزال مشروع المجلّة منقوصا من النصوص التطبيقية والمناشير، إضافة إلى المجالس المنتخبة المسؤولة عن تطبيقه. ولكنّ الأهمّ أنّ هذا المشروع يحتاج بالأساس إلى ثقافة شاملة على مستوى الدولة والمواطنين على حدّ سواء.

لست أبالغ إن قلت أنّ مسار اللامركزية يحتاج إلى 30 سنة ليحقّق الأهداف المرجوّة، وهي فترة توصّلنا إلى استخلاصها بعد سنوات من دراسة كافة تفاصيل المشروع والوضع القائم على المستوى المحلي والوطني. وقد قمنا بتقسيمها إلى 3 مراحل تمتدّ كلّ منها على 9 سنوات، ثمّ قسّمنا كلّ مرحلة على 3 فترات مع إجراء تقييم كلّ 3 سنوات لتتبّع نسق المشروع. نحن ملتزمون بتنفيذ هذا التمشّي الاستراتيجي، والذّي يشمل دعم الموارد البشرية وتوزيع الاختصاصات وتحويل الموارد اللازمة لها. هنا وجب التذكير أنّنا نتحدّث عن 1000 اختصاص ينفرد بهم المركز وهو ما يفرض علينا التدرّج لتوزيعها. وسنبدأ خلال السنوات الثلاث الأولى بتحويل 15 بالمائة من الاختصاصات و10 بالمائة من الموارد ورفع نسبة التأطير إلى 15 بالمائة.

ماذا لو بدأنا بتشخيص الوضع الراهن للبلديات؟

المعضلة الرئيسيّة التي واجهناها كانت هيمنة النظام المركزي الذي انعكس سلبا على البلديات، التي تحوّلت إلى مرافق تابعة ومجرّدة من الصلاحيّات. تركيز التخطيط والقرار في الشأن المحلّي على مستوى المركز تحت شعار المصلحة العامّة خلق بيروقراطية مُكلفة وشوّه صورة البلديات. كما ساهم الخلط بين اللامحورية واللامركزية، في تفاقم مشكلة الازدواج الوظيفي. وتجدر العودة إلى مسألة التنظيم الإداري باعتبار أنّ التقسيم الترابي خضع دائما إلى الهاجس الأمني وتمّ توظيفه لفرض سلطة الدولة المركز على كامل المجال الترابي. وهو ما يمكن إثباته في العديد من الولايات التّي تمّ إحداثها في ظروف استثنائية بغضّ النظر عن المتطلّبات التنموية. على مستوى الصلاحيات، اقتصر دور البلديات على الخدمات الكلاسيكية كرفع الفضلات وتهيئة المدن، أمّا الخدمات الحيوبة المتصّلة باحتياجات المواطنين الأساسيّة كالصحة والتعليم، فكانت خارج نطاق تدخّلها، وهو ما ساهم في إضعاف البلديات وانعدام الثقة في هذا الهيكل.

من جهة أخرى، لا يمكن تشخيص وضع البلديات بمعزل عن الأزمة المالية الهيكلية التّي تعيشها. وتتمثّل أبرز المعضلات على المستوى المالي في عدم التحكم في استخلاص ما هو موجود، إضافة إلى ضعف الموارد الجبائيّة ونسبة التأطير التي تتراوح بين 20 بالمائة في البلديات الكبيرة و5 بالمائة في نظيراتها من البلديات الصغيرة. كما لا يتجاوز حجم موارد البلديات من اعتمادات الميزانية 3 بالمائة كمعدّل عامّ في حين تصل هذه النسبة إلى 18 بالمائة في بعض البلدان الأخرى على غرار الدول الاسكندنافيّة. هذا وتتفاوت الوضعيّة بين مختلف البلديات، حيث تحتكر 18 بلدية أكثر من 50 بالمائة من الموارد ممّا انعكس على صياغة نصّ المشروع خلال البحث عن إعادة نوع من التوازن. أمّا على مستوى المصاريف، فقد تضخّمت نفقات التصرف خلال السنوات الأخيرة بنسق متسارع، على غرار نفقات التأجير التي تجاوزت نسبة 100 بالمائة من جملة الموارد في العديد من البلديات، وهو ما خلق اختلالا هائلا في الموازنات.

وهل تمثّل وضعية البلديات اليوم عائقا في وجه اللامركزية؟

التحدي قائم. ولكن من جهة أخرى فإن عملنا قائم على الاستشراف، حيث ينطلق المشروع من تشخيص الوضع واقتراح سبل الخروج منه. على المستوى التشريعي تَجسّد ذلك في الدستور الجديد، حيث تضمّن الباب السابع المتعلّق بالسلطة المحلية 12 فصلا بدل الفصل اليتيم الذي كان يخصّ المجالس الجهوية والمحلية في الدستور السابق. كما قمنا بطرح كافّة الأسئلة والإجابة عنها في شكل تصوّر جديد يتجسّد في النصّ وخارج النصّ. بمعنى آخر، سيتمّ تركيز العديد من الآليات والهياكل لتفعيل السلطة المحلية، كالمحاكم الإدارية الجهوية لتقريب العدالة للمواطنين والتي ستتولّى دور الرقابة اللاحقة، ثم سيتم تركيز الأقاليم والجهات ومجلس أعلى للجماعات المحلية. وأودّ التأكيد هنا أنّ إنجاح مشروع اللامركزية يتطلّب الانسجام بين التشخيص والتصوّرات. كما يجب الانتباه إلى حساسيّة مسألة الاستقلالية بين المركزي والمحلّي، فجرعات الاستقلالية التي سيتمّ منحها على المستوى المحلّي تتطلب فهم الخصوصيات التاريخية والاجتماعية. وإن كنّا قادرين اليوم على صياغة نصّ جيّد فإنّ تجسيمه يستوجب رؤية واقعية ومدروسة.

كيف تمّ تصوّر موارد هذا المشروع؟

تمّ الاعتماد على التجارب المقارنة فيما يتعلّق بالنظام المالي للجماعات المحليّة وتوزيع الموارد، ويتمّ الاستعانة بعدد من المموّلين للمشروع في هذا الغرض. ظاهريا يتحدّث الجميع عن ضعف الموارد، ولكن بإمكاننا تعزيز هذه الموارد من خلال دعم عملية الاستخلاص بالجماعات المحلية. حيث يوفّر المعلوم المستخلص من 192 مؤسسة 50 مليون دينار، في حين أنّنا قمنا بجرد أكثر من 2000 مؤسسة اقتصاديّة، وهو ما يمثّل هدرا هائلا للموارد الذاتيّة للبلديات. كما تمّ إدراج عدد من المعاليم مباشرة ضمن مشمولات الجماعات المحلية لتشجيع البلديات على استخلاصها.

أمّا على مستوى الإصلاحات لتدعيم الموارد الماليّة فتمّ إلغاء الاقتراض من أجل التأجير وحصره في مجال التنمية، إضافة إلى التفكير في خلق مداخيل جديدة عبر تحويل جزء من ضرائب الدولة إلى الجماعات المحليّة ومعاليم الإشهار ممّا من شأنه تعزيز مبدأ التدبير الحرّ. كما تمّ التنصيص في مشروع المجلّة على اعتماد نظام القيد المزدوج في المحاسبة العموميّة المحليّة لضمان مزيد من الشفافيّة والدقّة في تحديد الموارد والنفقات والتحكّم في المديونيّة. هذا وقد أفرد الدستور الجماعات المحلية بنظام مالي خاصّ بها، وهو ما ننكبّ على إعداده بتمويل خارجيّ ليكون جاهزا قبل موفى سنة 2018.

ماذا عن الانسجام بين مسار اللامركزية ومسار التنمية، ألا يمرّ تعزيز موارد الجماعات المحلية وجوبا عبر تعزيز الاستثمار في كافّة المناطق ؟

أشاطرك الرأي بخصوص تلازم كلا المسارين. فلا يمكن الحديث عن تعزيز الموارد الجبائيّة للبلديات في غياب الاستثمارات والمشاريع التي تمثّل المصدر الأساسيّ لهذه المداخيل. الاختلال الجهوي على مستوى التنمية والاستثمار ألقى بضلاله على وضعيّة البلديات وخلق هو الآخر تفاوتا ملحوظا بين بلدية وأخرى، وهو ما أخذناه بعين الاعتبار من خلال اعتماد مؤشرات التنمية الجهوية في تعميم النظام البلدي الجديد. وهنا وجب التأكيد على أنّ نجاح مشروع اللامركزيّة في النهوض بأداء البلديات ومستوى خدماتها مرهون بتفعيل مبدأ التمييز الإيجابي. المساران متلازمان ولا يمكن للبلديّة أن تقدّم خدمات ناجعة في مناخ اقتصاديّ صعب أو متعثّر.

ألا يتعارض مبدأ التدبير الحرّ وتوفير الاستقلالية المالية والإدارية مع تفشّي ظاهرة الفساد في البلديات؟

الفساد في البلديات أكثر وضوحا لقربه من الناس وارتباطه بمصالحهم المباشرة. ولكنّ آليات المراقبة المركزية غير ناجعة لمحاربة تفشي الفساد على المستوى المحلّي نظرا لتعقيدات الإجراءات وطولها. لحلّ هذه الاشكاليّة، اتخذنا خطوة جدّية بالتعاون مع الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في اعتماد برنامج النزاهة بالبلديات، وعقد اتفاقيات عمل بين الهيئة والجماعات المحليّة، وهو ما اعتبرناه تجربة نموذجية يتم العمل عليها ضمن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في انتظار التجاوب اللازم من مختلف الأطراف المعنيّة.

يرتبط تفعيل مسار اللامركزية ضرورة باعتماد الآليات التشاركية، فلماذا عارضتم الميزانية التشاركية؟ ولما تمّ التخلّي عن الجلسات التمهيدية في نصّ مشروع المجلّة؟

لقد نصّ الدستور على اعتماد آليات الديمقراطية التشاركيّة وهو ما نلتزم به مع صندوق القروض من خلال اعتماد التشاركيّة في ضبط المخطط الاستثماري البلدي، وهي آلية مباشرة وإلزامية. لكن هذا لا يمنع البلديات من اعتماد أيّ آليّة أخرى كالميزانيّة التشاركيّة. أمّا بخصوص الجلسات التمهيديّة، فرغم عدم تضمينها في مشروع المجلّة، إلاّ أنّها تبقى آلية يمكن إدراجها ضمن القانون الداخلي لكلّ بلديّة.