أكّد الائتلاف المدني لمكافحة الفساد في بيانه الصادر يوم الاثنين 5 جوان 2017 ضرورة فتح أبحاث إدارية وجزائية في البطء غير المبرّر لتتبّع الفاسدين من طرف القضاء. الائتلاف الذي يضمّ 19 منظّمة وجمعيّة من مكوّنات المجتمع المدني الناشطة في مجال الحوكمة ومكافحة الفساد، طالب في إطار تفعيل حرب حقيقية ضدّ الفساد بـدعم الموارد المادية واللوجيستية لمختلف السلط والهياكل المعنية بمكافحة الفساد وتفعيل جملة من الآليات أهمّها استكمال الترسانة القانونية والتشريعية التي من شأنها أن تحدث فرقا على مستوى التصدّي للكمّ الهائل من الملفّات التي يتمّ التقصّي حولها. إذ تصطدم الأحكام القضائية باختلاف مستوياتها بجدار التنفيذ لاسيما ما يتعلّق بالجماعات المحليّة والهياكل الترابية ذات الصلاحيات الترتيبية وفي علاقة مباشرة بمصالح المواطنين.

تورّط البلديات: من الرشوة إلى إهدار الملك العامّ

خلال العقود الأخيرة، تمّ تسجيل الكثير من التجاوزات في البلديات خصوصا على مستوى الصفقات العمومية عبر انتهاك الشروط المتعلّقة بعروض الطلب والإخلال بكرّاس الشروط، إضافة إلى خضوع عملية إسناد الصفقات للولاءات ولنفوذ رجال الأعمال. ويشمل تورّط البلديات في ملفّات الفساد التفويت في الأراضي البيضاء، أو في العقارات المبنية أو الفضاءات المهيّأة أو تسويغ المحلاّت التجارية وغيرها لصالح الغير، وهو ما أدّى إلى إهدار المال العامّ والإخلال بالشروط الدنيا للتصرّف في الملك العمومي.

هذا ويلعب أشباه الموظّفين كرئيس النيابة الخصوصية أو رئيس البلدية أو نائبه وأعوان المصالح الفنية وأعضاء اللّجان المختصّة دورا رئيسيّا في تسهيل استشراء الفساد وتسخير الهيكل البلدي لخدمة شبكاته. ولا تقتصر سلسلة الهياكل المتورّطة على البلديات فحسب، إذ تعمل السلطات المركزية كالوزارات والمؤسسات الوطنية ذات الصبغة غير الإدارية على التغطية على تلك الانتهاكات. في هذا السياق، تبدو قضيّة مارينا قمرت كمثال صارخ على ما سلف ذكره، حيث تورّطت بلدية المرسى، ممثّلة في رئيسها الأسبق محمد كمال الصالحي، وأعضاء اللّجنة الفنية في الترخيص لشركة مارينا قمرت لبناء مجمع سكني سياحي ترفيهي اثر التفويت في الأرض وتغيير صبغتها من الملك العمومي البحري وإدماجه بملك الدولة الخاصّ.

ملفّ مارينا قمّرت ليس الأوّل أو الوحيد من نوعه، حيث تورّطت العديد من البلديات في ملفّات فساد مشابهة على غرار بلدية قربة. حيث تحوم شبهات فساد حول الصفقة العمومية الخاصّة بتسويغ الفضاء الترفيهي “كيرديس” على مساحة 7132 م2 مقابل 5000 دينار في السنة. ويشمل هذا الملفّ الذّي تمّت إحالته على أنظار الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد التلاعب بعروض الطلب وعدم الالتزام بكرّاس الشروط. وتفيد مصادرنا أنّ المستفيد من المشروع كان المترشّح الوحيد ضمن الصفقة العمومية. ولم تتوقف الانتهاكات عند هذا الحدّ، إذ لم تتدخّل الوكالة الوطنية لحماية الشريط الساحلي وبلديّة قربة عند شروع المتسوّغ في البناء على الشريط الساحلي خارج المساحة المرخّص بها. ويسمح الترخيص الذي قدّمته البلدية باستغلال 160م من الشاطئ إلاّ أنّ نفس المصادر تؤكّد أنّ المتسوّغ يستغلّ أكثر من 1500م. وقد سجّلت لجنة المعاينة التابعة للولاية في تقريرها هذه التجاوزات إلاّ أنّ تغيير والي نابل اثر حركة الولاّة الأخيرة حال دون متابعة أعمال المساءلة للبلدية من طرف المصالح المعنية.

عجز الترسانة القانونيّة أمام الملفّات المتراكمة

عانت الأطر القانونية لمجابهة الفساد قبل جانفي 2011 من قلّة نجاعتها على غرار المجلّة الجزائية الصادرة بمقتضى الأمر العليّ المؤرّخ في 9 جويلية 1913 أو مجلّة الإجراءات الجزائية الصادرة بالقانون عدد 23 لسنة 1968 أو القانون عدد 17 لسنة 1987 المؤرّخ في 10 أفريل 1987 والمتعلّق بالتصريح على الشرف بمكاسب أعضاء الحكومة وبعض الأصناف من الأعوان العموميين. وتجدر الإشارة أنّ الترسانة التشريعية لمختلف القوانين في مجال الحوكمة ومحاربة الفساد تستند إلى اتفاقية الأمم المتّحدة لمكافحة الفساد المعتمدة منذ 31 أكتوبر 2003 والتي صادقت عليها تونس في 2008 بموجب القانون عدد 16 المؤرّخ في 25 فيفري 2008، وتحظى هذه الاتفاقية بالعلوية على كافّة القوانين.

دستور جانفي 2014 سار نحو تعزيز آليات الحوكمة ومحاربة الفساد حسب ما ورد في الفقرة الأولى من التوطئة وعبر الفصول 10 و11 و15 و32 و35 و90 و126 و130. كما تمّت المصادقة على القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 المتعلّق بالحقّ في النفاذ للمعلومة والقانون الأساسي عدد 10 لسنة 2017 المتعلّق بالإبلاغ عن الفساد وحماية حقوق المبلّغين. ورغم الأهمية القصوى لهذين القانونين في مجابهة الفساد على مستوى الهياكل الإدارية المحلية إلاّ أنّهما جاءا في توقيت متأخّر ووسط تلكؤ النقاشات في المجلس التشريعي. كما لم يتمّ تفعيلهما في كافّة الهياكل والإدارات. وهو ما أكّده بلاغ الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في 25 ماي 2017 حول تفعيل القانون المتعلّق بالإبلاغ عن الفساد وحماية المبلغين إذ أفاد أنّ “14 هيكلا عموميا فقط قد تولّى مدّها بمعطيات بمعنى أحكام القانون مقابل ما يقارب 280 هيكل عمومي تقاعسوا عن ذلك” منبّها أنّه وإلى حدود تاريخ البلاغ “لم يصدر أي نصّ تطبيقي للقانون”.

تونس التي تراجعت في ترتيب منظّمة الشفافية الدولية من المرتبة 58 سنة 2010 إلى المرتبة 75 في 2016 ما تزال بحاجة إلى استكمال الأطر القانونية وتوحيدها حيث أدّى تشتّتها إلى تعطيل جهود الحرب على الفساد وضرب ثقة المواطنين في جدّيتها ونجاعة آلياتها. ويعتبر المرسوم عدد 7 لسنة 2011 المتعلّق بإحداث اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد بمثابة النصّ القانوني الأوّل منذ الثورة الذي يختصّ في الموضوع  تلاه فيما بعد المرسوم عدد 120 لسنة 2011 المتعلّق بمكافحة الفساد والذي تمّ بمقتضاه إحداث الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد لتحلّ محلّ اللّجنة الأولى. إضافة إلى 459 ملفّ تمّت إحالتهم من قبل اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد والتي تتضمّن ملفات فساد في البلديات، أفادت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في بلاغ لها بتاريخ 23 ماي 2017 حول الملفّات المودعة إلى القضاء أنّها وإلى حدود تاريخ البلاغ قامت بإحالة 169 ملفّ على أنظار النيابة العمومية بمختلف المحاكم الابتدائية والتي تولّت بدورها إحالتها على: القطب القضائي (27 ملفّ)، قلم التحقيق بالمحاكم الابتدائية بتونس (12 ملفّ)، قلم التحقيق بالمحاكم الابتدائية بباقي الجمهورية (23 ملفّ) والتي تتضمّن شبهات فساد تتعلّق بعدد من البلديات وتهمّ صفقات عمومية والاستيلاء على الأموال العمومية.

جدلية الأحكام والتنفيذ

تنتهي جل آليات مكافحة الفساد إلى القضاء. ورغم عدد الملفّات التي تمّ تقصّيها إلى اليوم وإحالتها على القضاء الإداري وصدور أحكام باتّة فيها لصالح المتضرّرين إلاّ أنها تصطدم بعائق التنفيذ. إذ ظلّت أغلب الأحكام القضائية حبرا على ورق رغم ثبوت كافّة الأدلّة والحجج. في هذا السياق أكّد محمد العيادي، المستشار بالمحكمة الإدارية وعضو الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد “أنّ عدم تنفيذ الأحكام القضائية يمثّل أبرز صور الفساد التي يتعيّن على الحكومة محاربتها”.

توفيق بن تمسك أحد المتضرّرين ضمن قضيّة الشريط الساحلي ببلدية حمّام الشطّ، أكّد في تصريح لنواة أنّ التقاضي عمليّة شاقّة، تتطلّب الكثير من الجرأة، وذلك لتجاهل الإدارة التونسية بمختلف مستوياتها أحكام القضاء الإداري”. وأشار في حديثه عن ملفّ حمّام الشطّ أنّه “ورغم صدور أوّل حكم في 25 جوان 1997، تصّر مختلف الهياكل المتورّطة في الملفّ على غرار البلدية على عدم الاستجابة للأحكام الباتّة الصادرة عن المحكمة الإدارية“. وتتمثّل أطوار قضيّة الشريط الساحلي بحمّام الشطّ في تورّط البلدية بشراكة مع عدد من الهياكل العموميّة ذات الصبغة غير الإدارية في التفويت في الشريط الساحلي والترخيص بالبناء، ما انجرّ عنه تشييد أكثر من 16 عقار في الملك العمومي البحري في قضيّة تورّط فيها أكثر من 40 شخصا. ليختم توفيق بن تمسك قائلا “لا يبدو أنّ الإدارة التونسية قابلة للإصلاح، إذ باستمرار العجز عن تنفيذ الأحكام القضائيّة تبقى السبل مسدودة نحو القضاء على الفساد”.

رغم أهميّة الترسانة القانونية والتشريعية لمكافحة الفساد تبقى الإرادة السياسية عاملا أساسيّا في نجاح الحرب على الفساد ووضع حدّ لتجاوزات أشباه الموظّفين والإطارات الإدارية المحليّة والجهوية. ولحلّ معضلة التنفيذ، تبدو الحاجة ملحّة لإصلاحات جديّة أهمّها تفريع محاكم القضاء الإداري والمالي قصد تقريب العدالة من المواطن والحدّ من بطئ التقاضي الذي تتسّم به المحكمة الإدارية.