ليس بعيدا عن المدرسة الصادقية -التي كان وراء تأسيسها خير الدين التونسي سنة 1875 في إطار الانفتاح على العلوم العصرية واللغات الأجنبية منتصف القرن التاسع عشر- احتشد يوم السبت 8 أفريل 2017 عشرات التلاميذ مُرتدين الأزياء الرسمية لأعوان الشرطة ووحدات التدخل لتحية العلم، بدعوة من وزارة التربية وتحت إشراف الوزير ناجي جلول.

كان الخلط بين التعليم العسكري والعلوم الأخرى أمرا دارجا في زمن خير الدين ومُعاصريه، خصوصا لدى الجيل الإصلاحي الأول الذي تخرّج من المدرسة الحربية بباردو(1840)، وتعد هذه المسألة سمة عامة هيمنت على الخيارات التربوية العربية والاسلامية طيلة القرن 19 نتيجة الاحتكاك بمدافع الأوروبيين وأساطيلهم الحربية، وهو ما ترتب عنه تصور إصلاحي مُنبهر بعتاد الغزاة ومندفع بقوة نحو الاعتناء بمؤسسات الجيش والإدارة.

المشهد الأخير لتلاميذ المدارس العمومية وهم يستبدلون المِيدعات والمحفظات بأزياء الشرطة والأحذية العسكرية لا ينطق بعبثية العودة إلى خيار الجيل الإصلاحي الأول -الذي يعتبر وزير التربية نفسه امتدادا له- وإنما يعكس توليفة “إصلاحوية” جديدة تمتزج فيها إرادتان: إرادة السلطة الهادفة إلى جر كل المجتمع نحو صراع أحادي مقدس “ضد الإرهاب” يُلغي تناقض المصالح الكامن في الواقع، ثم الإرادة الخاصة لوزير التربية الذي استبدل رأسه الجامعي بأحذية عسكرية من أجل التكيف مع شروط الارتقاء في السلم السلطوي، والذي يُعد التزلف للمؤسسات الأمنية أحد شروطه.

ناجي جلول: وزير برتبة جنرال

منذ تولّيه حقيبة التربية في فيفري 2015 حرص ناجي جلول على إبراز شخصية حازمة وصارمة من خلال الزيارات الفجئية للمؤسسات التربوية، التي تُحاكي في أسلوبها “الاستعراضي” تلك المداهمات الليلية التي يقوم بها أعوان الأمن. هذه الممارسة أردَفها الوزير بخطاب سياسي قائم على ولاء شديد للمؤسستين الأمنية والعسكرية، وكانت العودة إلى المشروع التحديثي لدولة بورقيبة لازمة من لازمات التعبير لديه. وقد لجأ في بعض الأحيان إلى المغالاة، في ظل التنافس الخطابي المحموم على صورة “المجاهد الاكبر” وعلى إظهار الولاء للأجهزة الأمنية والعسكرية، من الأمثلة على ذلك: إقرار الخدمة العسكرية كشرط للالتحاق بسلك التعليم في وزارة التربية. الإشادة بصورة التقطها الجنود على جثث الإرهابيين والعمل على إشاعتها في المدارس. مقاطعة حوار تلفزي احتجاجا على مداخلة القاضي احمد الرحموني الذي اتهم فيها أعوان فرقة مكافحة الارهاب باقتلاع اعترافات قسرية من مشتبه فيهم تحت التعذيب.

تبدو هذه المحاكاة الخَطابية والعملية للأسلوب العسكري مُبررة أول الأمر على اعتبار أن وزير التربية أستاذ جامعي بقسم التاريخ، مختص في التاريخ الاسلامي العسكري الوسيط، وكان أحد الأعضاء المؤسسين للجنة الوطنية للتاريخ العسكري التابعة لوزارة الدفاع سنة 2003. ولكن يُرجّح أن هذا الخيار له مبررات راهنة تعكس تطلعاته السياسية، إذ أدرك ناجي جلول المطّلع على آليات التسلق السلطوي أن الطريق إلى هرم الإدارة السياسية (رئيس أو رئيس حكومة) يستوجب ارتباطا بالأجهزة الأمنية من خلال تقلد بعض الخطط في هذه الأسلاك، وإن تعذّر هذا الشرط يمكن تقمص أدوار أمنية على خشبة المسرح السياسي، وهو مالجأ إليه وزير التربية من خلال الأمثلة المسرودة.

وطالما أن المُتحولين سياسيا وحزبيا يَنظِمون مواقفهم على ضوء المعادلة القائلة: لكل مرحلة شعاراتها ورموزها وتموقعاتها، فقد أظهر ناجي جلول قدرة فائقة على التكيف مع وضع ما بعد انتخابات 2014 من خلال الدعاية لمنظومة “التوافق” الجديدة، وقد سعى إلى التخلص من صفة “الخبير في الجماعات الاسلامية” التي أشاعها عن نفسه زمن حكم الترويكا للظهور في ثوب المعادي لمشروع الإسلاميين، ليتحول بعد تقلده الوزارة إلى شخصية رصينة تتحين الفرص لالتقاط صور هامشية مع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي.    

التلميذ: من المدرسة إلى الثكنة

الطموح السياسي الجامح لوزير التربية انعكس في السياسات التربوية التي تتجه في جانب كبير منها نحو البروباغاندا “الأمنية” المُتلحّفة بمفاهيم “الحفاظ على الدولة” و”مقاومة التطرف” و”الوفاء للوطن”. في هذا السياق يسعى جلول جاهدا إلى إيجاد ارتباطات بين المؤسسة التربوية والأجهزة الأمنية، مستغلا الأحداث الوطنية من بينها ذكرى شهداء 9 أفريل الأخيرة التي أجبر فيها العشرات من التلاميذ على التظاهر بساحة القصبة من خلال ارتداء أزياء الشرطة ووحدات التدخل.

رمزية العسكرة القسرية للمدرسة العمومية، في إطار الأهداف الدعائية للوزير، لها دلالة أعمق في الواقع يشير إليها الارتفاع المتواصل لمؤشرات الانقطاع المدرسي. ومن أسبابه عدم قدرة المنظومة التربوية على تحفيز الراغبين في الانقطاع وتسليحهم بالأفق والهدف، علاوة على تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وهيمنة أنماط التعليم الموازية التي تستقطب الشرائح الاجتماعية المترفهة. ولعل وزير التربية الذي يتلقى تمويلات من المنظمات الدولية ومن دول أوروبية تحت عنوان “مقاومة ظاهرة الانقطاع المدرسي” يدرك أن المئات من المنقطعين يغادرون المدارس إلى ثكنات التدريب في إطار اجتياز مناظرات الالتحاق بأسلاك الأمن والدفاع، وبعض الأمنيين الذين استشهدوا هم تلاميذ انقطعت بهم السبل ولفظتهم المدرسة العمومية.

لئن كانت المفاهيم العقلانية المؤسسة لثقافات الشعوب ونشئها تستقر في التركيبات الذهنية عبر الحوامل  المعرفية والتربوية الرصينة، فإن الرهان عن الحماسة والتجييش كأداة تربوية وحيدة يعكس الفشل المنظوماتي في تحويل المدرسة إلى منتج لمشروع اجتماعي عقلاني وتقدمي، قائم على ثقافة البحث والنسبية، متحرر من الانبتات والانغلاقية في آن واحد. ولعل المشروع “التربوي-العسكري” لناجي جلول يلتقي في أهدافه مع المشروع “الهوياتي-المنغلق” لأن كليهما منتج لشخصية تلمذية مستلبة، عاجزة عن وعي ذاتها وعالمها.