لم يتأخّر الوعيد الذّي أطلقه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الثلاثاء الفارط، ردّا خبر الهجوم الكيمياوي على بلدة خان شيخون في ريف ادلب في سوريا، لتشنّ المدمّرات الأمريكيّة في البحر الأبيض المتوسّط هجمات صاروخيّة ضدّ قاعدة الشعيرات الجويّة على تخوم مديمة حمص فجر اليوم 07 أفريل 2017. عمليّة عسكريّة تنذر بمنعرج جديد في مسار الحرب الدوليّة في سوريا مع تباين المواقف وردود الأفعال الصادرة عن اللاعبين الاساسيّين على الأرض السوريّة. بين التنديد الروسي، والترحيب الأوروبي والتركيّ، والرضا الصهيوني والسعودي بالغارة الأمريكيّة، ما تزال الديبلوماسيّة التونسيّة حتّى كتابة هذه الاسطر تلتزم الصمت وتتنازعها ثنائيّة الاصطفاف المدفوع الأجر من جهة والرغبة في التخلّص من الإرث السياسيّ لحقبة الترويكا تجاه الأزمة السوريّة من جهة أخرى.

سوريا في قلب التجاذبات السياسيّة في تونس

مثّلت سوريا خلال الأسابيع الأخيرة أحد محاور التجاذبات السياسيّة على الساحة التونسيّة. فالجلسة العامة لمجلس نوّاب الشعب، يوم الأربعاء 05 أفريل الجاري، خُصّص جزء منها لمناقشة السياسة الخارجيّة للبلاد ومساءلة وزير الشؤون الخارجيّة خميّس الجهيناوي.

الجلسة الصاخبة التي خيّمت على أجوائها أصداء الهجوم الكيمياوي على بلدة خان شيخون، في الرابع من نفس الشهر، تناولت الأزمة السوريّة وطبيعة الموقف الديبلوماسيّ من تسارع الأحداث هناك خصوصا مع إصدار الخارجيّة التونسيّة بيانا أدان الهجوم الكيمياوي وطالب بتحقيق دوليّ لكشف المسؤولين عن تلك المجزرة وامتناع تونس عن عن التصويت على قرار من قبل مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، يدين النظام السوري. مواقف لم يستسغها نواب النهضة والمؤتمر الذّين رأوا فيها تواصلا لسياسة مسك العصا من الوسط وتجنّب المواقف الصريحة أو الإصطفاف الواضح خصوصا مع إشارة البيان المذكور إلى “ضرورة تواصل الجهود السياسيّة لإيجاد حلّ ينهي الحرب المستمرّة في سوريا منذ ستّ سنوات.”

وزير الخارجيّة خميّس الجهيناوي، دافع عن الخطّ الديبلوماسيّ الرسمي لوزارته، معتبرا أنّ أن القرار “أدان بشدة جرائم النظام في حق الشعب السوري” ولكنّه “لم يدن بنفس الحدة جرائم الجماعات الأخرى في هذا البلد على غرار الجماعات الإرهابية”، حسب تعبيره. معتبرا أنّ مواقف الحكومة التونسيّة تخضع لمنطق المصالح والرغبة في حفظ علاقات متوازنة مع جميع الأطراف المتداخلة في الشأن السوري.

جدل تزامن مع تصريح رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي خلال استقباله للوفد البرلماني الذّي زار العاصمة دمشق أواسط شهر مارس الفارط. استقبال رسميّ جاء مناقضا لموقف وزارة الخارجيّة التي نفت علمها بمبادرة النوّاب، معتبرة هذا التصرّف “خارجا عن السياسات التونسية”، بينما أثارت هذه الزيارة موجة انتقادات واسعة من نوّاب الكتل السياسيّة على غرار النهضة والمؤتمر والتيّار الديمقراطي. السبسي صرّح بشكل واضح عقب اللقاء أنّه “لا مانع من إعادة العلاقات مع سوريا إلى مستواها الطبيعي بعد أن تتحسن الأوضاع وتستقر في هذا البلد”، مشدّدا على أنّ الاتصالات لم تنقطع منذ سنة 2015 للتنسيق الأمني ومتابعة أوضاع الجالية التونسية في سوريا. تصريح جديد يعكس مضيّ الحكومات التونسيّة بعد انتخابات سنة 2014 إلى التخلّص من الإرث السياسيّ لحكومات الترويكا التي عمدت إلى قطع العلاقات مع سوريا سنة 2012 واصطفت بشكل واضح مع معسكر القوى الداعمة سياسيا وعسكريا للفصائل المسلّحة المناوئة للنظام السوري.

على الساحة الوطنيّة، أصدر الاتحاد العام التونسي للشغل بيانا اليوم، ندّد فيه بالعدوان الأمريكيّ وما أسماه “العربدة الدوليّة” داعيا ” القوى الديمقراطية والمجتمع المدني الدولي بالضغط على كلّ القوى المعادية لسوريا للكفّ عن تمويل الحرب الأهلية ومحاصرة تصدير الأسلحة اليها ومنع عمليات التسفير الموجّه إليها”. في المقابل، لم تتفاعل السلطات الرسميّة مع الغارة الأمريكيّة سوى بالصمت، وهو ما يطرح أكثر من تساؤل حول جديّة وقدرة الديبلوماسية التونسيّة على اتخاذ مواقف بمنأى عن تأثيرات التحالفات مدفوعة الأجر وإرث الترويكا السياسيّ.

ديبلوماسية الحياد وإغراءات جزرة المساعدات الاقتصاديّة

ألقى التغيير السياسيّ في السلطة عقب الانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة أواخر سنة 2014 بضلاله على التعاطي الرسمي التونسي مع الأزمة السوريّة. التموقع الرسميّ من الصراع الدائر على أرض الشام تماهى في بداياته مع التوجه القطريّ والتركي خلال قمّتيّ بغداد والدوحة سنتي 2012 و2013 إبان حكم الترويكا وحركة النهضة بالأساس. ليعمد رئيس الجمهورية السابق منصف المرزوقي حينها إلى الانخراط التام في سياسة عزل النظام السوري عبر سحب السفير التونسي وطرد نظيره السوري في تونس وعقد مؤتمر أصدقاء سوريا في 24 فيفري 2012 بدعوة فرنسية ودعم قطري وتركي مادي وسياسيّ.

الدعم التونسيّ خلال تلك الفترة تجاوز الاعتراف التام بالمعارضة السورية ليشمل تصدير المرتزقة إلى سوريا عبر تسهيل العبور والتغاضي عن حملات الشحن والتحشيد في المساجد ووسائل الاعلام ضدّ النظام السوري. الديبلوماسية التونسيّة التي أعقبت اسقاط الترويكا، عادت لتعدّل موقفها وخطابها لتتبنى توصيف الحرب “بالأزمة السورية” والدعوة إلى تدخّل أممي لحلّ القضيّة سياسيا. تطوّر يعكس تخلّي الدولة عن رهاناتها السابقة ومراجعة تحالفاتها خصوصا مع تركيا وقطر تزامنا مع اسقاط الاخوان المسلمين في مصر وتحييدهم في تونس تباعا في مقابل تنامي الدور السعودي في تشكيل ملامح السياسة الإقليمية التونسيّة. لاعب جديد– قديم استغلّ تدهور الوضع الاقتصاديّ التونسي لتقديم الإغراءات المالية في سبيل ضمان اصطفاف تونس لخدمة معارك النفوذ السعوديّة في المنطقة وهاجس “التوغّل الإيراني”.

في نفس السياق، وفي مسار مواز، مضت الحكومات التونسيّة المتعاقبة بعيدا في تطوير “التعاون الأمني والعسكريّ” مع دول حلف الناتو. تفاهمات واتفاقيات كشفت نواة سابقا عددا منها على غرار الاتفاق بين الحكومة التونسيّة ونظيرتها الأمريكيّة بخصوص “أفراد القوات المسلحة الأمريكية المتواجدين بصفة مؤقتة داخل الإقليم التونسي وأفراد القوات المسلّحة التّونسية المتواجدين بصفة مؤقتة داخل إقليم الولايات المتّحدة الأمريكية”، إضافة إلى “مذكرة بخصوص مشروع الاتفاق المتعلق بالوضعية القانونية للقوات الأمريكية خلال تواجدها بتونس” و أهمّ المسائل التي تناولها الحوار الثنائيّ بين رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري خلال أعمال الدورة الثانية من الحوار الاستراتيجي التونسي الأمريكي في نوفمبر 2015. إضافة إلى تطوّر التعاون الأمني بين تونس وحلف شمال الأطلسي إلى حدود تركيز مركز استخباراتي للحلف في الأراضي التونسيّة.

الحكومة التونسيّة التي لم تمانع الانضمام إلى “التحالف الإسلامي” الموجّه ضدّ إيران وحزب الله وسوريا في سبتمبر 2015، وغضّ الطرف عن تصنيف حزب الله كمنظّمة ارهابيّة، والتعامي عن العدوان السعوديّ على اليمن، تجد نفسها اليوم في موقف محرج إزاء الملّف السوري المفتوح على كلّ الاحتمالات بعد التدخّل الأمريكيّ المباشر ضدّ النظام السوري. جزرة المساعدات الاقتصاديّة الموعودة من المملكة السعوديّة، وتشبّث الأوروبيّين بموقفهم من النظام السوري والضربة العسكريّة الامريكيّة الأخيرة واتفاقيات التعاون الأمني والعسكري، قد تسقط خطّ “ديبلوماسيّة الحياد” التيّ تحاول تونس من خلالها تجنّب الغرق أكثر في معارك “اللاعبين الدوليّين” لتعزيز المواقع على الساحة السوريّة.