قامت كاميرا الشاب حمزة عوني، مخرج الشريط الوثائقي ”جمل البروطة“ بزوم إين، zoom in، في عمق مسلك من مسالك الاقتصاد الصغير، فكبرت ما يبدو صغيرا في عيون من قد يحجب الكبير عنه الصغير. غاب هذا الشريط عن مفكرة المواعيد الترفيهية لوزير الاقتصاد والمالية في حكومة التكنوقراط المولع بالسينما منذ سنوات الشباب الخوالي.

التحديات كبيرة والملفات عصية ومدة الخطة سنة واحدة. ومع ذلك تمكن حكيم بن حمودة من مشاهدة بعض الأفلام خلال أيام قرطاج السنمائية، وأدى، حسب تعبيره، مناسك الحج السنوية لمهرجان قليبية لسينما الهواة لكنه أرجأ، لضيق الوقت، مشاهدة ”جمل البروطة“ أو ”القرط“ إلى ما بعد انتهاء المهمة.

وماإن سلمت حكومة المهدي جمعة المشعل الى حكومة الحبيب الصيد يوم 6 فيفري 2015 حتى تسنى لحكيم بن حمودة مرافقة كاميرا الوثائقي وهي تتوغل بالديب زوم، deep zoom، في أعماق بؤس شباب تونس الذي تجاهلته مشاريع التنمية. حينها قال : ”إنه شهادة صادمة حول التهميش وصوت من أصوات الانتفاضات القادمة“.

زووم إلى الوراء

رويدا رويدا ومنذ الصفحات الأولى لكتابه، يدخل بِنَا الوزير الانتقالي إلى عالمه المهني والتقني ليفصح عن رؤيته الاستراتيجية التي ستقود اختياراته وتوجهاته الكبرى ويلخصها كالآتي :

ما بين اللنيوليبيرالية الفجة والمناهضة الراديكالية للعولمة هناك طريق ثالثة تتسم بواقعية أكبر. هذه الطريق تبحث في إعادة التوازن إلى الاقتصاد الكلي macroéconomie السائر إلى الانخرام مع تجنب السياسات التقشفية. فتسريع محركات التنمية وتعزيز الانتعاش الاقتصادي هما الهدفان الأساسيان لهذا التوجه.

ويمضي معللا اختياراته فيكتب : ”فمثل ما يحدث أثناء كبريات الأزمات في تاريخ الاقتصاد المعاصر، فإن هذه المرحلة الانتقالية ذات الأهمية القصوى والتبعات الاقتصادية المنتظرة، تعتبر الأزمة الاقتصادية الأكبر في تاريخ تونس المستقلة وتستدعي وضع إشكالية جديدة لأدوات السياسة الاقتصادية التقليدية.“

فالأزمات، على حد قوله، تفرض الخروج عن الدروب المألوفة وتحتم تجديد المقاربات، لذلك ”سعينا إلى تصور سياسة اقتصادية contracyclique تعكس الدورة الراكدة لتحولها إلى دورة مزدهرة تحفز المؤسسات على الاستثمار وتعيد التفاؤل إلى المستهلك“، ولكن هذه المقاربة لن تكون يسيرة التنفيذ لأن المجتمعات، حسب تقديره، عادة ما تحرّم على السياسات الاقتصادية ما تحلله للسياسة: الابتكار والتجديد.

حفلة على غفلة

حكيم بن حمودة الكاتب أراد أيضا الابتكار والتجديد في كتابه، فكذّب الفكرة السائدة والقائلة بأن الكتب التي تتناول المواضيع الاقتصادية والشؤون المالية هي كتب عسيرة ومملة لغير أهل الاختصاص. استعار من أدبيات التسيير المحديث management مفردات وعبارات باللغة الانجليزية فتحدث عن team building و leading by example و show road وكسر الصورة النمطية للوزير فكتب عن حكيم بن حمودة الزوج والابن والمهاجر والصديق واعترف بشغفه بكرة القدم وبالسنما. غنت له الفنانة زهيرة سالم في مكتب الوزارة وردد مع بعض وزراء حكومة الانتقال الديمقراطي أغاني الأعراس التي تذكره بأيام الطفولة.

وفِي الأثناء، تراكمت ملفات رفع السر البنكي وإفلاس الصناديق الاجتماعية وملف صندوق التعويض وغيرها من الملفات الحارقة على مكتبه، في انتظار الحلول العاجلة. وكان هاجس عجز الدولة عن تسديد ديونها وجرايات موظفيها في الآجال كابوسا يقض مضجع الوزير الانتقالي.

السير في الدرب العسير

”على عكس ما عاشته بلدان الربيع العربي، وبفضل المصادقة التوافقية على الدستور وتشكيل حكومة الكفاءات، نجت تونس ولَم تسقط في الهاوية“ هكذا جاء حكم حكيم بن حمودة على مجريات الأحداث في البلاد. أما عن تقديره للمهمة التي كانت في انتظار الفريق الحكومي الانتقالي، فقال إنها أتت في حجم مهمة البطل الأسطوري سيزيف واستدعت منه درجة عالية من اللاوعي وجرعة كبيرة من الالتزام. فالوضع حرج واللحظة حاسمة، وعلى عكس تلقائية الدعم السياسي للانتقال الديمقراطي وأهميته، جاء الدعم الاقتصادي والمالي الدولي، محتشما شحيحا. وَمِمَّا زاد في تعكير الوضع وتعقيده، حسب رأيه، تدهور ترقيم تونس السيادي وبالتالي انخفاض كل معدلات الدعم علاوة عن الخيانة التي ارتكبتها الأزمات الأوروبية في حق الربيع العربي. ومع ذلك، ”فإن هذا الحدث سيجبر الأختين في واشنطن : البنك العالمي وصندوق النقد الدولي على القيام بمراجعات عميقة للاستراتيجيات التي تتبعها منذ أواخر التسعينات من القرن العشرين“ و ذهب الخبير الاقتصادي الدولي إلى حد وصفها بالثورة الصغيرة.

طرقات مألوفة بآفاق مسدودة

”على عكس ما ادَّعاه بعضهم من أننا لم نكن نسلك طريقنا وفق استراتيجيا اقتصادية واضحة المعالم وبأننا كنّا نطبق اختيارات المؤسسات البنكية الدولية، أأكد وأجزم بأننا اخترنا سياستنا الاقتصادية على أساس مبدء الإصلاح الذي أملاه علينا الفحص الصارم والدقيق لوضع البلاد“. يقول حكيم بن حمودة مشددا على أنه كان مقتنعا بأن الاقتصار على تأمين طريق المرحلة الانتقالية كان غير كاف وأن توسيع التفكير إلى تطورات المناخ الدولي والانعكاسات المرتقبة لأزمة اقتصادات العالم الغربي بات أمرا حتميا. ومع ذلك فضل وزير الاقتصاد والمالية في حكومة المهدي جمعة تعديل بوصلة السير في اتجاه هذا الغرب دون سواه واقتصرت رحلته التسويقية Show Road التي تجند لها رفقة موظفين ساميين من البنك المركزي على زيارة لندن، باريس، ميونيخ، لوس أجلس، نيويورك، بوسطن…

فبالرغم من دراية الخبير الدولي بمشاكل الاقتصاد الغربي المزمنة والقادمة وبالرغم من معرفته حق المعرفة بلاشعبية شروط مؤسسات Bretton Wood اختار الطريق المعبدة.

هكذا وتماديا في الرضوخ إلى إملاءات الاستعمار القديم والجديد، يطغى السياسي على الاقتصادي ويسلمه رزمة مفاتيح لأبواب مفتوحة تقع على طرقات مألوفة بآفاق مسدودة. فأصحاب القرار، حتىالانتقاليين منهم، لا يعترفون بذلك ويواصلون التحرك في الاطر التقليدية البالية ويفضلون الزيجات التعيسة على إقامة علاقات مصاهرة مع تجمعات اقتصادية جديدة. فقريبا ستبدأ تونس في تسديد الديون التي اقترضتها بعد 2011 وهاهي عديد الأوساط بدأت تتساءل عما طلبته قطر من تونس مقابل تأجيل سداد قرض ووديعة المليار ؟

فائض الخزينة وتضخم الأنا

الجغرافيا الاقتصادية العالمية تعيش فترة انتقالية قد تقلب كل الموازين والتوازنات رأسا على عقب وتونس الانتقالية بقيت قابعة في مربع السجين الممتن لجلاديه.

وفي حين يستعد العالم لاستيعاب بنك تنمية جديد يسعى لأن يكون بديلا للبنك العالمي ولصندوق النقد الدولي New Development Bank وهو بنك دول BRICS البرازيل وروسيا والهند والصين وافريقيا الجنوبية، يتفاخر حكيم بن حمودة في ”مدونة وزير انتقالي“ بأن جهوده أعطت أكلها بعد أن تحسن الوضع الاقتصادي وانخفض عجز الميزانية وتدعمت الموازنات الكبرى و.. وصفق البنك العالمي وكذلك صندوق النقد الدولي الذي كاد أن يختار وزير حكومة المهدي جمعة لمنصب مدير قسم الشرق الأوسط وآسيا الوسطى لولم ترجح كفة الوزير اللبناني السابق جهاد عزور القريب من عائلة الحريري.

الجغرافيا الاقتصادية والمالية تدخل مرحلة جديدة بنشوء CIVETS الذي يضم كولومبيا والفيتنام ومصر وتركيا وافريقيا الجنوبية وصعود MINT المتكون من المكسيك وإندونيسيا وتركيا ونيجيريا، وبتعلة ضرورة حل المسائل المستعجلة، يغفل حكيم بن حمودة عن عمق تونس الجغرافي، وينسى أهم تجمع اقتصادي أفريقي ”إكواس“ الذي طالبت المغرب مؤخرا بالانضمام إليه.
ويواصل الوزير الخبير الاقتصادي والجامعي والعارف بالمؤسسات المالية المتعددة الأطراف وبشروطها المجحفة، يواصل الدفاع عن اختياراته متباهيًا بأنه أنهى العام وفِي حسابات خزينة الدولة 400 مليون دولار قاهرا بهذه المحصلة كابوس عجز الدولة عن الدفع.

فهل يكفي أن ينقشع كابوس وزير انتقالي لتتبدد المخاطر التي تحف باقتصاد تونس وماليتها من جراء اختيارات وزير انتقالي ووزراء سابقين وآخرين لاحقين ؟

  1. Hakim Ben Hammouda, Chroniques d’un ministre de transition. Tunis, Cérès, 2016.
  2. حكيم بن حمودة، يوميات وزير في المرحلة الإنتقالية. دار محمد عليّ، صفاقس، 2017. ترجمة عبد العزيز الجربي، رضا بسباس و رضا بن سعيد