تناقلت العديد من وسائل الإعلام يوم الثلاثاء 21 مارس 2017 خبر إقالة مستشار مقرر مكلف بنزاعات الدولة بسبب تورطه في ملف البنك الفرنسي-التونسي. في اليوم الموالي تكثفت الإطلالات الإعلامية لمبروك كورشيد، كاتب الدولة لأملاك الدولة والشؤون العقارية، للإشادة بجرأته في قطع دابر الفساد، مشيرا إلى أن الموظف المعزول “أمضى اتفاق صلح مع أحد رجال الأعمال في ملف البنك الفرنسي التونسي قد يكلف الدولة آلاف المليارات”.

المستشار المعزول –الذي لم تذكره وسائل الإعلام- هو حامد النقعاوي الذي كُلف بمتابعة النزاع في ملف البنك الفرنسي التونسي منذ شهر جويلية 2012، والطرف الذي أمضى معه الاتفاق الإطاري للصلح هو رئيس المجموعة الاستثمارية ABCI التي دخلت في خلاف مع “الدولة التونسية” منذ سنة 1987 ومازال منشورا لدى هياكل التحكيم الدولية. هذا النزاع تسبّب فيه نظام بن علي وتحمّل تبعاته دافعو الضرائب حيث كلّف الخزينة العمومية 35 مليون أورو كأتعاب للمحامين فقط، بالإضافة إلى أنه شكّل مدخلا للسطو على مقدرات البنك واستنزاف رأسماله المتأتي من المال العام (البنك الفرنسي التونسي هو أحد فروع الشركة التونسية للبنك).

تضخيم حادثة عزل المستشار تحت عنوان “الدفاع عن مقدرات الدولة” يحجب الوجه الآخر للفساد الذي يُقدّر بمئات المليارات نهبها رجال أعمال ومسؤولون في شكل قروض من البنك الفرنسي- التونسي بمساعدة من موظفين كبار في البنك المركزي وبحماية سياسية بدأت مع النظام السابق وتواصلت مع حكومات مابعد 14 جانفي 2011. يستعرض هذا المقال عودة إلى وثائق مسرّبة -سبق وأن نشرها موقع نواة- طيلة السنة الفارطة، وذلك لوضع حادثة عزل المستشار في سياقيها السياسي والاقتصادي وتحليل خلفياتها المسكوت عنها.

سياسة أكباش الفداء

مذكرة الصلح التي تحدّث عنها مبروك كورشيد مؤخرا بوصفها أحد أسباب عزل حامد النقعاوي المستشار المقرر المكلف بنزاعات الدولة هي وثيقة إطارية مُمهدة لاتفاق صلح مع الممثل القانوني لمجمع الاستثمار ABCI أمضاها المستشار المعزول في 31 أوت 2012 بوصفه مكلفا بالملف آنذاك. وعكس ما يُروج رسميا من أن حامد النقعاوي قام بإمضاءها خلسة ودون علم الأطراف المعنية من ضمنهم البنك المركزي ووزارة المالية، فإن المحضر المُسرّب لجلسة العمل الوزارية (انظر المحضر) التي التأمت يوم الخميس 13 ديسمبر 2012 –التي أشرف عليها رضا السعيدي الوزير المكلف بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية في حكومة حمادي الجبالي- يشير بوضوح إلى أن النقعاوي أشار إلى الاتفاق وذكر أنه “تم ربط الصلة مع السيد بودن وتم الاتفاق على إطار عام للصلح…”.

⬇︎ PDF

إضافة إلى هذا يبرز الدور المشبوه لوزير أملاك الدولة والشؤون العقارية الأسبق، سليم بن حميدان، الذي أنكر علمه بالاتفاق الصلحي رغم أن مستشاره المنذر صفر المكلف بمتابعة الملف كان يحيطه علما بكل التفاصيل. وقد سعى بن حميدان بكل الوسائل إلى توريط حامد النقعاوي من خلال تحريك هيئة الرقابة العامة لأملاك الدولة في جانفي 2013 إذ قام فريقها بإجراء بحث حول النزاع بين الدولة التونسية وشركة ABCI، وقد خَلُص عمل هذا الفريق إلى تحميل المسؤوليات إلى العديد من الجهات واقتراح جملة من العقوبات من ضمنها “اتخاذ إجراءات تأديبية ضد السيد حامد النقعاوي من اجل امضائه اتفاقية الصلح مع شركة ABCI دون الالتزام بالاجراءات المقررة لذلك وتجاوزه لحدود التفويض الممنوح له”، حسب ماورد في تقرير البحث الذي قامت ب هيئة الرقابة المذكورة. ومن الملاحظ أن التقرير المذكور أعفى سليم حميدان من المسؤولية رغم أن النقعاوي ذكر أثناء مساءلته من قبل فريق الرقابة أنه أمضى الاتفاق بعد استشارة وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية. هذا التقرير اعتمده بن حميدان ليبرئ ساحته أمام رئيس الحكومة من خلال مراسلة بعث بها إلى علي العريض في 22 جويلية 2013 أوهمه فيها أنه تفطن مؤخرا لكتب الاتفاق المؤرخ في 31 أوت 2012 بفضل هيئة الرقابة متهما النقعاوي بـ”سعيه إلى إخفاء الاتفاق والقيام بتجاوز حدود التفويض المخول له”..

مسار الصلح لم يدشّنه المستشار المعزول وإنما تم الشروع فيه منذ مارس 2011 حيث وقعت الموافقة المبدئية عليه في جلسة وزارية انعقدت في 02 جوان 2011، وهو ما ترتّب عنه الشروع في إجراءات التحكيم مع المركز الدولي لتسوية المنازعات الاستشارية (CIRDI) بداية من ذلك التاريخ. ولعل ما قام به النقعاوي هو وضع الأسس العملية للصلح. رغم عدم تمكننا من الحصول على وثيقة الاتفاق الإطاري للصلح الذي عُزِل بسببها حامد النقعاوي فإنه حسب محضر الجلسة المنعقدة في 13 ديسمبر 2012 أشار هذا الأخير إلى أن “الصلح تأسس على الشراكة المربحة للجانبين وعدم بنائه على قاعدة جبر الضرر”. وقد دافع المستشار المعزول عن خيار الصلح مؤكدا أن “التوصل إلى إبرام صلح في هذا النزاع هو في حد ذاته إنجاز هام للطرف التونسي لأنه يرمي إلى كف سيل النفقات والجهود المبذولة…إضافة إلى تفادي صدور حكم يؤدي إلى خروج مبالغ هامة بالعملة الصعبة”.

بغض النظر عن الاتفاق الإطاري للصلح الذي أمضاه المستشار المعزول، فإن الملفت للانتباه هو مواقع المعارضين له خصوصا المديرين في البنك المركزي (منير القليبي ونادية قمحة)، وممثلي وزارة المالية والمشتشارين الحكوميين المكلفين بالملف طيلة الحكومات المتعاقبة منذ 2011. ماذا يُخفي الموقف الرافض للمسار الصلحي والسعي المحموم إلى الإلقاء بالأزمة على عاتق حامد النقعاوي؟

التغطية على جرائم المافيا الاقتصادية

رغم الموقف الضعيف للدولة التونسية في النزاع القائم مع مجمع ABCI والذي كلف الميزانية العامة أموالا طائلة في اجراءات التنازع ورغم أن جل الاحتمالات الحكومية تؤكد صدور حكم لفائدة المجمع المذكور قد يكبد الخزينة العامة تعويضات تناهز 900 مليون أورو. رغم كل هذا فإن هناك إرادة مشتركة بين جميع الحكومات (من حكومة الجبالي إلى حكومة الشاهد) تدفع نحو استكمال التنازع وإعدام فرضية التفكير في الصلح. ولعل المتطلع في محاضر الجلسات الوزارية –التي سبق وأن نشرها موقع نواة- بإمكانه فهم طبيعة المواقف وخلفياتها. في هذا السياق يتلازم تعطيل مسار الصلح من قبل ممثلي الحكومات وممثلي البنك المركزي وممثلي وزارة المالية مع الدعوة إلى التصفية التدريجية غير المعلنة للبنك الفرنسي التونسي، وهو الحل الذي دفع باتجاهه منير القليبي (توفي 28 ديسمبر 2016)  مدير المصالح القانونية بالبنك المركزي التونسي الذي واكب أغلب الاجتماعات الوزارية المنعقدة للنظر في الملف منذ سنة 2012، ومن المعلوم أن منير القليبي الذي شغل سابقا خطة مدير عام للبنك الفرنسي التونسي سنة 1989 كان له دور حاسم في تركيز نظام القروض دون ضمانات الأمر الذي مكّن عديد رجال الأعمال من التمتع بقروض لم يقع تسديدها إلى الآن.

خيار التصفية التدريجية غير المُعلنة للبنك الفرنسي التونسي دفعت باتجاهه أيضا نادية قمحة، المديرة العامة بالبنك المركزي خصوصا في الجلسة الوزارية الملتئمة بتاريخ الثلاثاء 15 ديسمبر 2015 بإشراف رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد. هذا المقترح حظي بتأييد وزير المالية سليم شاكر ووزير التنمية والاستثمار ياسين ابراهيم وحاتم العشي وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية السابقين.

التصفية ستعفي قائمة المستفيدين من رجال الأعمال من تسديد القروض الطائلة التي كونوا من خلالها جزءا من ثرواتهم في ظل النظام السابق. كما ستعفي أيضا المسؤولين الماليين السابقين سواءا في البنك المركزي أو البنك الفرنسي التونسي أو في وزارة المالية من المساءلة خصوصا وأنهم يتحملون جانب كبير من مسؤولية إفلاس البنك الذي يُضَخ رأسماله من المال العام. والأكثر من ذلك تم التغطية على هذه الجرائم الاقتصادية من قبل رؤساء الحكومات المتعاقبين بعد سنة 2011 ووزراء المالية ووزراء أملاك الدولة ومحافظين في البنك المركزي. (انظر قائمات رجال الأعمال والشركات المتهربة من سداد القروض).

⬇︎ PDF

تصفية البنك من أجل التغطية على جرائم المافيا الاقتصادية والمتواطئين معها تَطلّب كبش فداء جديد تُحمَل على عاتقه الأزمة برمّتها، وقد كان الأقرب إلى هذا الموقع المستشار حامد النقعاوي، الذي تورط في ظل تعدد الجهات المتداخلة في الملف وعدم وضوح المقاربة الرسمية وهيمنة التسويات الخلفية التي لم يكن النقعاوي ملمّا بها نظرا لأن الملف فيه قائمة من رجال أعمال بعضهم تربطه وشائج مادية وسياسية بأحزاب الحكم. ومازال الملف يُدار بنفس الطريقة في حكومة يوسف الشاهد التي فعّلت قرار تصفية مسار الصلح والمضي في تنازع تحكيمي الأرجح أنه سيكون خاسرا ولن يُعفي الدولة من دفع المليارات من التعويضات، عكس ما يدعيه كورشيد الذي تحرك بإملاءات من ديوان رئيس الحكومة وخصوصا من الثلاثي المكلف بالملف: رضا السعيدي وفيصل دربال ولطفي بن ساسي. علاوة على شروع حكومة الشاهد في التصفية التدرجية غير المعلنة للبنك الفرنسي التونسي التي تعتبر حيلة قانونية وسياسية للتغطية على الفساد المالي والإداري الذي استنزف البنك.