انتهت السلسلة الماراطونية لجلسات الاستماع والتحقيق فيما يعرف بقضيّة حفلات “ماريا كاري” في تونس سنة 2006 بإصدار الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بتونس في 03 مارس الجاري، حكما بالسجن 6 سنوات مع النفاذ العاجل ضدّ كلّ كاتب الدولة للشباب سابقا كمال حاج ساسي، وزيرة التجهيز سابقا سميرة الحاج خياش ووزير السياحة السابق التيجاني الحداد، إضافة إلى الرئيس السابق زين العابدين بن علي وعماد الطرابلسي بتهمة الإضرار بالإدارة واستغلال النفوذ وتحقيق فائدة غير قانونية.

هذا الحكم في عمليّة التحيّل التّي فاقت معاملاتها 2 مليون دينار أعاد إلى دائرة الجدل قضيّة المسؤولية السياسيّة والأخلاقيّة للمسؤولين الحكوميين في عهد الرئيس السابق بن علي وصمتهم أو تواطؤهم في قضايا الفساد وتسخير الإدارة العمومية لخدمة العائلة الحاكمة.

تسخير أجهزة الدولة لخدمة الحاشية  

انطلقت التحقيقات فيما يعرف بقضيّة حفلة ماريا كاريا في تونس منذ الأشهر الأولى بعد سقوط نظام بن علي. وقد شملت التحقيقات عماد الطرابلسي والمُدانين الثلاث إضافة إلى الوزير الأوّل السابق محمد الغنّوشي والممثّل القانوني للبنك الفرنسي التونسي.

وتعود أطوار القضيّة بحسب تقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة إلى تاريخ 28 جوان 2006، حين تقدّم الممثّل القانوني لشركة Intervalle Events بطلب إلى اللجنة الاستشارية المكلفة بالنظر في عقود الفنانين الأجانب لتنظيم عرضين تحييهما الفنانة الأمريكية ماريا كاري يومي 22 و24   جويلية من نفس السنة. الموافقة اقترنت بأولى التجاوزات، حيث تمّ إضفاء الصبغة الثقافية على العرضين وهو ما انجرّ عنه الإعفاء من جزء من الاداءات والضرائب الموظفة على عقود الفنانين الأجانب.

⬇︎ PDF

عقب الموافقة على تنظيم الحفلتين، تمّ تكليف كاتب الدولة للشباب كمال حاج ساسي بإذن رئاسي لتولّي مهمّة الإشراف والتنظيم. من هنا تواصلت سلسلة التجاوزات التي تمّ خلالها تسخير الهياكل العمومية لخدمة منظّم الحفل الذّي لم يكن سوى ستارا لصهر الرئيس السابق عماد الطرابلسي. وبناء على تحقيقات اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق فإنّ هذا الأخير عمد إلى فتح حساب في البنك الفرنسي التونسي التابع للشركة التونسية للبنك (بنك عمومي) باسم الممثّل القانوني لشركة Intervalle Events، والتّي لم تكن سوى شركة وهمية لم تتأسّس بعد حينها، ليتم التلاعب بالحروف وفتح حساب البنكي باسم inter-ewents رغم أنّ التحويلات كان تتمّ لصالح الشركة الأولى. أمّا تعبئة الموارد لتنظيم الحفلين، فقد تمّ تسخير الهياكل العمومية للدولة ومسالك التوزيع الخاصّة بوزارة الثقافة لبيع التذاكر وجمع صكوك الدعم والإشهار. وفي هذا السياق، يذكر التقرير المذكور أنّ شركة اتصالات تونس قد قامت بتاريخ 18 جويلية  2006بتنزيل مبلغ 350 ألف دينار بالحساب المفتوح لدى البنك الفرنسي التونسي كمقابل لعرض إشهار إثر موافقة كتابية من وزير تكنولوجيا الاتصالات منتصر والي، كما تمّ إلزام ديوان طيران المدني بسداد مصاريف مزوّدي خدمات الحفلين والتي ناهزت 255 ألف دينار إضافة إلى إجبار باقي الإدارات والوداديات والمؤسّسات العمومية على اقتناء عدد من التذاكر على غرار ودادية أعوان الديوان التي أقدمت على شراء 100 تذكرة بقيمة  20ألف دينار. في حين تكفّلت وزارة الثقافة بتسخير شبكات التوزيع الخاصّة بها لبيع التذاكر المتبقيّة للعموم في عهد وزير الشؤون الثقافية محمد العزيز بن عاشور.

بعد الحفل، يشير تقرير لجنة عبد الفتاح عمر، أنّ الحساب الخاصّ بتنزيل التحويلات المالية المختلفة لما أسمته الدعاية الرسمية “التظاهرة الثقافية الموجّهة للأعمال الخيريّة” والذّي فتحه عماد الطرابلسي مستغلا واجهة وهمية، قد شهد عمليات سحب منظّمة بمبالغ ضخمة فاقت أحيانا على 800 ألف دينار بدء من 18 أوت 2006، إلى حدود 31 ماي 2007، تاريخ غلق الحساب نهائيا.

“الشيطان يغريك ولكنّه لا يجبرك”

الحكم الأخير بحقّ المسؤولين الحكوميّين الثلاث، أثار ردود أفعال مستنكرة من عدد من الأحزاب السياسيّة على غرار مشروع تونس وحزب المبادرة وحزب نداء تونس وحزب آفاق تونس الذّين رفضوا الحكم الصادر بحقّ المُدانين وخصوصا كمال حاج ساسي باعتباره “عبدا مأمورا” ضمن منظومة الفساد وتداخل المصالح لتتوالى البيانات والمواقف ودعوات المساندة من هذه الأحزاب وعدد من نوّابها في مجلس الشعب. بدوره، أبدى كمال حاج ساسي، كاتب الدولة للشباب والمكلّف بالإشراف على تنظيم الحفل، خلال التحقيقات جهله التام بمصير عائدات الحفلة وأموال الدعم المقتطعة من الخزينة العمومية للدولة، كما حاول التنصّل من المسؤوليّة السياسيّة والأخلاقيّة عن عمليّة التحيّل بدعوى تنفيذ الأوامر.

دون الدخول في مصير الأموال المنهوبة ومدى استفادة هذا الأخير من تنظيم الحفلين والإشراف عليهما، فإنّ كمال حاج ساسي ووزيرة التجهيز سابقا سميرة الحاج خياش ووزير السياحة السابق التيجاني الحداد كانوا بحكم مناصبهم يتحمّلون مسؤوليات سياسيّة وقانونية لا تُعفيهم من التجاوزات التي تمّت تحت أنظارهم ولا تبرّر غضّ الطرف عن تسخير أجهزة الدولة لخدمة نشاطات الحاشية الحاكمة، أو التقصير في متابعة شبهات التلاعب والفساد أو التزام الصمت المطبق تجاه هذه التجاوزات. وقد تمّ الاعتماد في إدانة المحكومين على الفصل 96 من المجلّة الجزائية التونسيّة الذّي ينصّ على:

” يعاقب بالسجن مدة عشرة أعوام وبخطية تساوي قيمة المنفعة المتحصل عليها أو المضرة الحاصلة للإدارة الموظف العمومي أو شبهه وكل مدير أو عضو أو مستخدم بإحدى الجماعات العمومية المحلية أو الجمعيات ذات المصلحة القومية أو بإحدى المؤسسات العمومية ذات الصبغة الصناعية والتجارية أو الشركات التي تساهم الدولة في رأس مالها بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنصيب ما أو الشركات التابعة إلى الجماعات العمومية المحلية مكلّف بمقتضى وظيفه ببيع أو صنع أو شراء أو إدارة أو حفظ أي مكاسب استغلّ صفته لاستخلاص فائدة لا وجه لها لنفسه أو لغيره أو للإضرار بالإدارة أو خالف التراتيب المنطبقة على تلك العمليات لتحقيق الفائدة أو إلحاق الضرر المشار إليهما.”

أمّا مواقف الأحزاب السياسيّة المعارضة للحكم القضائي، والسعي لتكوين لجان مساندة والترويج لمفهوم الفصل بين رأس المنظومة وأدواتها ومعاونيها، فهي تندرج في إطار محاولة إنقاذ ما تبقّى من أدوات النظام السابق وغلق الطريق أمام التعمّق في فهم ميكانيزمات منظومة الفساد في المؤسّسات العموميّة وكيفيّة تحويل الدولة وهياكلها الإداريّة إلى أدوات تنفيذيّة وحارسة لمصالح الشخص او العائلة الحاكمة. فالمُدانون الثلاث ليسوا سوى أدوات مرحليّة لمنظومة الفساد التي ما تزال تنخر الأجهزة الإدارية العموميّة حتّى هذه اللحظة.