تحت مظلة ”استطلاع الرأي“ يسعى الباروميتر السياسي الأخير لسيغما كونساي (مارس 2017) إلى تشكيل رأي عام مُتطابق مع الاتجاهات السياسية والاجتماعية لصاحب الشركة حسن الزرقوني، الذي بات يشكل ظاهرة خارقة لأخلاقيات سبر الآراء المعروفة في العالم، حيث دأب هذا الأخير على الطواف بالصحف والإذاعات والتلفازات بعد نشر استطلاعاته، حتى يُكمِل هندسة ملامح رأيه العام ولا يترك بذلك مسارب للتأويل والتحليل. فهو المُستطلع والمحلّل في آن واحد.

بعض الشخصيات العامة لباروميتر سيغما كونساي تشكل حالة ”ميتا سياسية“، أي أنها متعالية عن التأثيرات السياسية والاجتماعية، من بينها وزير التربية الناجي جلول الذي يحتكر منذ مدة المراتب الثلاثة الأولى في استطلاعات الشركة رغم الجدل المطروح حول هذه الشخصية في الأوساط النقابية والتلمذية ورغم انتمائه لحزب تتكاثر فيه الانقسامات والمصالح على حد السواء. وهنا يبرز الترابط بين ثلاثي الاستطلاع والإعلام والسلطة. إذ أصبحت نتائج الاستطلاع تشكل مادة إعلامية خصبة لدعم مواقع في السلطة أو لإزاحة أخرى.

حسن الزرقوني: الصديق الوفي للناجي جلول

يقول المثل الشائع ”إذا تخاصم اللصان ظهر المسروق“، فالمعارك التي تعصف بحزب نداء تونس منذ أكثر من سنتين كشفت عن تشابك كبير بين مصالح السياسة والمال، واستُخدمت فيها جميع وسائل التصفية بين الإخوة الأعداء. استطلاعات سيغما كونساي كانت إحدى هذه الوسائل، إذ أكد رضا بالحاج المدير التنفيذي السابق لحزب نداء تونس في شهر فيفري الفارط أن حسن الزرقوني كان أحد الداعمين لنداء تونس في حملته الانتخابية لسنة 2014، الأمر الذي جعله يتردد بشكل دائم على مقر الحملة. وقد استحضر رضا بالحاج هذا المعطى للتشكيك في مصداقية استطلاعات الزرقوني التي صنفته في ذيل الترتيب خلال شهر فيفري الفارط.

لو لا تَقطّع حبائل الود بين الرجلين لم يكن رضا بالحاج ليوظف هذا المعطى، ولكن اصطفاف الزرقوني وراء أحد أطراف الصراع جعل الوضوح ضرورة. بالمقابل يبدو وزير التربية، الناجي جلول، الأكثر حظا في استطلاعات سيغما كونساي، وحافظ طيلة أكثر من سنتين على المراتب الأولى في تصنيف الشخصيات التي ”تحظى بثقة التونسيين“، وقد احتل في باروميتر شهر مارس 2017  المرتبة الثالثة بعد عبد الفتاح مورو ورئيس الحكومة يوسف الشاهد (حسب جريدة المغرب الصادرة أمس الخميس)، وقد سبق أن صُنّف أيضا في 05 جانفي 2016 كأفضل وزير لدى التونسيين. لم تقف حظوة وزير التربية لدى ”سيغما كونساي“ عند حدود الترفيع في أسهم الاستطلاع، بل كان يحظى بالتمجيد من طرف مدير الشركة حسن الزرقوني، الذي ما انفك يشيد بخصال الوزير وقوته في فرض ”هيبة الدولة“ و”تحسين حياة التونسيين“، حتى بلغ به الأمر في إحدى التصريحات الإذاعية أن نسَب لوزير التربية دوره في ”منع المنحرفين من معاقرة الخمر في حدائق المدارس والمعاهد“…

يأتي الاستطلاع الأخير في سياق سياسي واجتماعي يتسم بارتفاع منسوب الاحتقان النقابي والتلمذي ضد وزير التربية الذي بات رحيله فرضية مُرجّحة، خاصة في ظل تمسك اتحاد الشغل بإقالته وسعي الحكومة إلى إيجاد مخارج لرحيل ناعم دون أن يستشعر الرأي العام فكرة التأثير النقابي على التركيبة الحكومية. ولعل الإيهام بشعبية ناجي جلول عبر استطلاع الرأي يشكّل أداة لتحسين صورته السياسية وإعانته على الخروج من الأزمة برصيد رمزي لا بأس به، قد ينقذه في المستقبل من السقوط في درجات السلم السلطوي.

السطو على الرأي العام

من المعلوم أن استطلاعات الرأي تنتمي إلى مناهج علوم الإنسان والمجتمع، التي تستعرض في نهاية المطاف حقائق نسبية حول أحوال المجتمعات واتجاهاتها السياسية، لذلك تحظى بالنقد والتطوير المستمرّين في مراكز الإنتاج البحثي عبر العالم. ولكن استطلاعات ”سيغما كونساي“ ليست مشمولة بهذا النقد العلمي نظرا لما تنطوي عليه من مشكلات منهجية وعلمية وأخلاقية، تبدأ من عيّنة الاستجواب، مرورا بالأسئلة المطروحة، وصولا إلى طبيعة الارتباطات المالية والسلطوية للشركة. وكثيرا ما تؤيد نتائج  الاستطلاع الآراء السياسية والاجتماعية لمدير ”سيغما كونساي“، الذي أصبح أحد ”نجوم الرأي“ في تونس وعنصرا فاعلا في الدعاية الرسمية.

لكن تحت مشروعية الاستخدام العلمي لمنهجية استطلاع الرأي يجري السطو على ”الرأي العام“، ليصبح مفهوما مُحتكرا من طرف ”سيغما كونساي“ التي تحظى نتائجها بانتشار واسع في منابر الإعلام المُهيمن. ومن خلال عينة صغيرة يجري استجوابها (لا تتجاوز 1062 حسب سيغما كونساي) يتم اختزال الموقف الشعبي من قضايا ومشكلات سياسية معقدة في اتجاهين لا ثالث لهما: هل أنت مع أوضد؟ على سبيل الذكر لا الحصر هل أنت مع الحرية أم مع الأمن؟ هذا المنهج الاستطلاعي التبسيطي يهدف إلى توحيد اتجاهات الرأي العام من خلال صناعة أغلبية وهمية مؤيدة لهذا الموقف أو رافضة له، وهذه الأغلبية المُفترضة ستحظى برواج في وسائل الإعلام، لتنتهي الأمور إلى خلق وعي سياسي قَطِيعي، يميل إلى السير على نحو لا شعوري وراء الموقف الأغلبي الذي أذاعه الاستطلاع.

بالإضافة إلى هذا تستخدم الشركة معايير مزاجية (التشاؤم/ التفاؤل) لقياس مواقف الرأي العام بخصوص قضايا سياسية واجتماعية تستدعي بناء رأي ذو مضمون اجتماعي وسياسي أيضا. وفي الحقيقة لم تعترضنا إلى حد الآن مناهج علمية يمكن من خلالها قياس مؤشرات التشاؤم والتفاؤل الاجتماعي على نحو يلامس الحقيقة السوسيولوجية، باستثناء بعض المحاولات التي يصنفها البعض ضمن الإطار النظري لعلم النفس الاجتماعي، وهي بعيدة عنه لأنها مرتبطة باستراتيجيات التأثير في الجماهير، على غرار المُؤلَّف الشهير للكاتب الفرنسي غوستاف لوبون ”سيكولوجية الجماهير“، الذي صدَر أواخر القرن التاسع عشر وكان صاحبه يُبلور فكرة السيطرة على الجماهير الزاحفة كقوة بارزة على مسرح التاريخ آنذاك، خصوصا في فرنسا التي شهدت زلزالا جماهيريا تمثَل بالثورة الفرنسية ثم بكومونة باريس. ولم يخف لوبون احتقاره للجماهير، ناظرا إليها كوعاء نفسي قابل للامتلاء بأي فكرة.

رغم الهوة الفكرية والزمنية الشاسعة بين غوستاف لوبون وبين مهندسي ”سيغما كونساي“، فإن ادعاء قياس مزاجية الجماهير عبر استطلاع رأي مختل (متفائلة أم متشائمة)، يهدف إلى تحويل الشعب إلى حالة نفسية عاجزة عن الفعل وقابلة للامتلاء بشتى الأفكار والتصورات السلطوية.