أعلنت رئاسة الحكومة صباح يوم السبت 25 فيفيري 2017، عن تحوير وزاري جزئيّ شمل وزارة الشؤون الدينيّة ووزارة الوظيفة العمومية والحوكمة وكتابة الدولة لوزارة التجارة. خطوة منتظرة مع تتالي الأزمات في عدد من الوزارات، لكنّ إقالة وزير الوظيفة العمومية عبيد البريكي تحمل دلالات ورسائل لأطراف عديدة من شركاء الحكومة ومعارضيها. خليفة البريكي على رأس هذه الوزارة لم يكن سوى خليل الغرياني، نائب رئيسة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والمسؤول عن ملفّ المفاوضات الاجتماعية صلب هذه المنظّمة. اقتصرت التعريفات المنشورة على سيرة ذاتية مقتضبة لهذا للوزير الجديد، إلاّ أنّ قراءة قيادته لمسار المفاوضات الاجتماعية طيلة السنوات الفارطة يفشي بمستقبل التعاطي الحكومي مع استحقاقات المنصب الجديد.

اختصاصيّ معارك المناورة وحرب الأعصاب على رأس وزارة الوظيفة العموميّة

على رأس واحدة من أكثر الوزارات تعقيدا وحساسيّة، تمّ تعيين خليل الغرياني النائب السابق لرئيسة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة والمكلف بالملف الاجتماعي وزيرا للوظيفة العمومية والحوكمة، بعد مسيرة دامت 28 سنة صلب تلك المنظّمة، قضى أكثر من نصفها حتّى اللحظات الأخيرة قبل منصبه الجديد صلب مصلحة الشؤون الاجتماعيّة.

صاحب التصريح الشهير: “نحن لا نخاف التصعيد، بل يخدمنا”، برز على الساحة السياسيّة كأحد أعضاء “حركة تحديث الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة” وممثّلا لها في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. هذه الحركة قادت عملية اسقاط الرئيس السابق لهذه المنظّمة الهادي الجيلاني مفسحة المجال لصعود وداد بوشماوي بعد أقل من شهر من سقوط نظام بن علي.

الوزير الجديد خليل الغرياني، لم يكن من أباطرة قطاع المال والأعمال في تونس، إلاّ أنّه تحوّل في السنوات الأخيرة إلى مهندس مسار المفاوضات الاجتماعية بين الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظّمة الأعراف، في مرحلة هي الأصعب في تاريخ العلاقة بين المنظّمتين إثر التغيير السياسيّ الذّي شهدته البلاد بعد 14 جانفي 2011.

وقد قاد مسار مفاوضات الترفيع في أجور موّظفي القطاع الخاص خلال السنوات القليلة الماضية بمبدأ التصعيد حتّى اللحظات الأخيرة قبل التنفيس مجدّدا والعودة إلى طاولة المفاوضات. أسلوب أثار حالة من الاحتقان والتوتر في العلاقة بين المنظّمتين النقابيتين الأقوى في البلاد، وصلت إلى حدود التلويح بإضراب عام في جميع المؤسسات الخاصة ردّا على تعطّل مفاوضات الترفيع في أجور موظّفي القطاع الخاص في 20 أكتوبر 2015. لتعود سلسلة المفاوضات الماراطونية ومراكمة التعهّدات دون الوصول إلى اتفاق حقيقيّ.

المماطلة وكسب الوقت واللعب على التفاصيل، أسلوب أتقنه الوزير الجديد للوظيفة العمومية والحوكمة حتّى اللحظات الأخيرة قبل تعيينه. حيث أصدر الاتحاد العام التونسي للشغل يوم الجمعة 24 فيفري 2017 بيانا ندّد فيه بتعثر المفاوضات حول الأجور في القطاع الخاصّ رغم مرور عام على ابرام اتّفاق مبدئي بخصوص مسار المفاوضات، كما دعا البيان منظّمة الأعراف إلى الإسراع بالإيفاء بتعهّداتها وتجنيب البلاد توتّرا اجتماعيا “منتظرا”.

خليل الغرياني: اسم ورسائل

استبدال الوزير السابق للوظيفة العمومية والحوكمة، عبيد البريكي والنائب السابق للأمين العام للاتحاد، وتعويضه بعضو المكتب التنفيذي لمنظّمة الأعراف يحمل في طيّاته رسائل مختلفة لشركاء الحكومة ومعارضيها. رجل المناورات في منظّمة الأعراف، والذّي “أتقن” مماطلة الاتحاد وتعطيل استحقاقات الترفيع في الأجور في القطاع الخاصّ ينتقل هذه المرّة مراكما تجربته السابقة لتوظيفها في التعاطي مع القطاع العام الذّي كان محور آخر أزمة بين منظمة الشغيلة وحكومة الشاهد عقب التلويح بإضراب عام في القطاع العمومي يوم 08 ديسمبر 2016 احتجاجا على قانون المالية 2017 وتجميد الزيادات المتفق عليها. تعيين لا يخلو من دلالات بالعودة إلى تاريخ العلاقة بين الرجل واتحاد الشغل والتي كادت تدخل البلاد في أكثر من مناسبة في أزمة اجتماعيّة، ويعكس رغبة حكومة يوسف الشاهد في التعاطي بأكثر صلابة وعنادا مع مسار المفاوضات الاجتماعية في القطاع العام، بعد أن لعب عبيد البريكي دور رجل الإطفاء بامتياز في المواجهة الأخيرة بين الطرفين.

الرسالة الثانية التي تضمّنها التعيين الأخير، ترتبط بما أعلنه يوسف الشاهد يوم أمس في حواره المتلفز، من تمسّكه بالمضيّ قدما في “إصلاح القطاع العمومي” أو بصيغة أخرى تنفيذ برنامج إصلاح الوظيفة العمومية المقدّم من صندوق النقد الدوليّ. اعلان لا يمكن فصله عن تعطيل صرف القسط الثاني من قرض برنامج الصندوق الممدّد ورغبة الشاهد في طمأنة هيئة النقد الدولية.

أمّا الرسالة الثالثة، فوُجّهت إلى شركاء الحكم والمعارضة، للإيحاء بأنّ حكومة الشاهد التي تتحرّك في ظلال قرطاج، لن تكون مكبّلة ببنود اتفاق حكومة الوحدة الوطنية، وستنعتق من التزامات التشاور مع الاتحاد ولن تخضع لضغوطات النقابات التي تدفع نحو اقالة وزير التربية ناجي جلول. هذه المناورة الأخيرة وإن حملت نذر مواجهة جديدة مع الأطراف الاقتصادية والاجتماعيّة، إلا أنّها تعكس بشكل واضح خيار الحسم الذّي اختارته السلطة بتثبيت نفوذ منظّمة الأعراف كشريك حقيقي في الحكم سواء في مجلس النواب أو في السلطة التنفيذية والنأي بنفسه عن “شريكه العمّالي” الذّي يعرقل تنفيذ توصيات هيئة النقد الدوليّة ويعطّل مضيّ الحكومات المتتالية لتقليص دور الدولة في المجال الاقتصاديّ بتعيين رجل “قادر” على تنفيذ توصياتها من إعادة هيكلة الوظيفة العمومية وتصفية القطاع العمومي.