بعد أربعة أيّام من الأشغال المتواصلة للمؤتمر العام الثالث والعشرون للاتحاد العام التونسي للشغل، يباشر المكتب التنفيذي الجديد مهامه اليوم في ظلّ مناخ اقتصادي واجتماعي عاصف، ومشهد سياسي مغاير عن الذّي تعاطى معه سابقه.

المكتب التنفيذي المنتخب، الذّي حافظ على جزء كبير من أعضاء مكتب مؤتمر طبرقة، سيواجه ملفّات عالقة لن تقلّ خطورتها عما واجهه الفريق القديم، وهو ما أكدّه الأمين العام السابق حسين العبّاسي خلال الكلمة الختامية، من أنّ المرحلة المقبلة ستشهد معارك ومواجهات صعبة على جبهات عدّة، ومستويات مختلفة. لكن الثابت أنّ الملفّات المفتوحة في القطاعين العام والخاصّ ستكون محور التجاذبات القادمة بين حكومة مصرّة على ما أسمته بالخيارات “المؤلمة” مدعومة من قطاع خاصّ عزّز حضوره السياسي بعد الانتخابات التشريعية في سنة 2014، وبين المكتب التنفيذي الجديد لمنظّمة الشغيلة الباحث عن ترسيخ دوره في حماية القطاع العام والحقوق الاجتماعية والاقتصاديّة ومنع تضييق حضوره السياسي الذّي تدعّم بعد سنة 2011.

القيادة النقابيّة الجديدة: مكتب تنفيذي جديد بأغلبية من “القدماء”

عملية الفرز التي انتهت بعد ظهر يوم الخميس 26 جانفي 2017، أماطت اللثام عن القائمة الفائزة في انتخابات المكتب التنفيذي وهي ما يُعرف بقائمة الوفاق التي ترأسّها نور الدين الطبوبي. هذا الاسم الذّي تواتر تكراره على مسامع التونسيّين منذ سنة 2011، خصوصا مع إعلان الإضراب العام في تونس العاصمة يوم 14 جانفي 2011 عندما كان هذا الأخير كاتبا عاما للاتحاد الجهوي للشغل بتونس العاصمة منذ سنة 2009. تدرّج الطبوبي، أصيل ولاية باجة، في هياكل الاتحاد كان منذ سنة 1990، عندما انتخب كاتبا عاما لنقابة شركة اللحوم طيلة أربع دورات متتالية ليتولى سنة 2001 مهمة الكاتب العام المساعد بالاتحاد الجهوي للشغل في تونس. ومن ثمّ تمّ انتخابه عضوا بلجنة النظام الوطنية سنة 2006. خبرته في لجنة النظام، فتحت المجال لنور الدين الطبوبي ليطلّع على أحد المفاصل الأساسيّة في العمل النقابي وليؤسّس لشبكة واسعة من العلاقات مع النقابيّين والمكاتب الجهوية والمحليّة.

عملية التنافس انحصرت منذ البداية بين مجموعة نور الدين الطبوبي، الأمين العام المساعد المسؤول عن النظام الداخلي في المكتب القديم، ومجموعة قاسم عفيّة، أمين عام مساعد مسؤول عن العلاقات الخارجية، والتي ضمّت لسعد اليعقوبي، كاتب عام النقابة العامة للتعليم الثانوي وأحد أبرز الوجوه الحاضرة إعلاميا خلال السنوات السابقة.

القائمة الفائزة في ختام المؤتمر العام الثالث والعشرون للاتحاد العام التونسي للشغل، ضمّت إلى جانب رئيس القائمة، عددا من رجالات المكتب التنفيذي السابق الذّين لعبوا أدوارا مختلفة في عدد من القطاعات. فمن ضمن 13 مقعدا، سيتضمّن المكتب التنفيذي الجديد تسعة أعضاء من المكتب السابق، هم:

  • نور الدين الطبوبي: الأمين العام المساعد المسؤول عن النظام الداخلي (سابقا)
  • حفيظ حفيظ: الأمين العام المساعد المسؤول عن قسم الوظيفة العمومية (سابقا)
  • سامي الطاهري: الأمين العام المساعد المسؤول عن قسم الاعلام والنشر والاتصال (سابقا)
  • سمير الشفي: الأمين العام المساعد المسؤول عن قسم المرأة والشباب العامل والجمعيات (سابقا)
  • انور بن قدور: الأمين العام النساعد المسؤول عن قسم الدراسات والتوثيق (سابقا)
  • عبد الكريم جراد: الأمين العام المساعد المسؤول عن التغطية الاجتماعية والصحة والسلامة المهنية (سابقا)
  • محمد مسلمي: الأمين العام المسؤول عن قسم التكوين النقابي والتثقيف العمالي (سابقا)
  • بوعلي المباركي: الأمين العام المسؤول عن قسم المالية والإدارة (سابقا)
  • كمال سعد: الأمين العام المساعد المسؤول عن القطاع العام والمنشآت العمومية (سابقا)

أمّا الوافدون الجدد على القيادة النقابيّة فكانوا على التوالي:

  • نعيمة الهمامي: عضو النقابة العامة للتعليم الثانوي
  • صلاح السالمي: كاتب عام الاتحاد الجهوي في القيروان
  • منعم عميرة: عضو النقابة العامة للتجهيز والاسكان
  • محمد علي البوغديري: كاتب عام الاتحاد الجهوي ببن عروس

هذه التركيبة القائمة على الحفاظ على فريق خبر التعامل مع أطراف الصراع السياسي والاقتصادي الاجتماعي خلال السنوات الخمس الماضية، يعكس رغبة الطرف النقابيّ في الحفاظ على استمرارية الخطاب ومراكمة التجربة خصوصا وقد أقرّت مختلف مداخلات المترشّحين والكلمة الختامية للأمين العام السابق حسين العبّاسي انّ المرحلة المقبلة ستكون شائكة ومفتوحة على جميع الاحتمالات في ظلّ بقاء عديد الملفّات الاقتصاديّة والاجتماعية عالقة مع انتهاء الفترة النيابية للمكتب التنفيذي السابق.

الملفّات المفتوحة: الإرث الشائك

طوى المكتب التنفيذي برئاسة حسين العبّاسي الفصل الأخير من مسيرته على رأس منظّمة الشغيلة بمعركة استمرت طيلة شهرين مع حكومة يوسف الشاهد وكادت تنتهي بتنفيذ إضراب عام في القطاع العمومي عقب الإجراءات التي أعلنتها الحكومة بخصوص الوظيفة العمومية ونيتها التراجع عن الزيادات المقرّرة لسنة 2017. أزمة نُزع فتيلها قبل سويعات من موعد الإضراب المقرّر في 08 ديسمبر2016 سبقه اتفاق مع الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة على استئناف مفاوضات الترفيع في أجور موظّفي وعملة القطاع الخاصّ خلال الأشهر اللاحقة. تفاهمات اللحظات الأخيرة من عمر القيادة النقابيّة السابقة، ورّث للمكتب التنفيذي الجديد ملفّات مفتوحة على جميع الاحتمالات ومنذرة بسيناريوهات مفتوحة حول أفق التعاطي مع الطرف الحكومي والقطاع الخّاص، خصوصا في ظلّ تداخل الأطراف واللاعبين والرهانات على الساحة السياسية وارتباطها المباشر بمستقبل الوضع الاقتصاديّ والاجتماعي المحتقن.

ملفّ القطاع العامّ: حكومة تتحرّك في ظلّ هيئات النقد الدولية

اتفاق اللحظات الأخيرة حول التزام الحكومة بالزيادات والمنح المقرّرة لسنة 2017 وضع حدّا لحالة الترقّب وتصاعد المواجهة بين الاتحاد العام التونسي للشغل من جهة وحكومة يوسف الشاهد من جهة أخرى. لكنّه لم يغلق هذا الملفّ بقدر تنفيسه لحالة الاحتقان في المشهد العام. فحكومة يوسف الشاهد التي تقدّمت بمقترح تأجيل صرف الزيادات والمنح المقرّرة لسنة 2017، اعتمدت على معطيات وتوازنات مالية دفعتها إلى اتخاذ هذا القرار. وقد وقّعت الاتفاق الجديد للهروب من سيناريو إضراب عام سيعمّق من هشاشة هذه الحكومة التي تواجه منذ نهاية شهر ديسمبر تصاعد موجة الحراك الاجتماعي. في المقابل، فإنّ إمكانية صمود هذا الاتفاق القائم على إعادة جدولة الزيادات، تبدو ضعيفة للغاية مع تواصل تدهور الوضع الاقتصاديّ وتفاقم عجز الموازنات العمومية تحت وطأة ارتفاع المديونة التي لم ينجح مؤتمر تونس للاستثمار في تخفيفها.

المعطى الثاني الذّي يزيد من فرضية انهيار هذا الاتفاق، يتمثّل في تحديد قدرة الفريق الحكومي على التحرّك خارج حدود ظلال صندوق النقد الدولي وبرنامج إصلاحه الهيكلي المرتبط تنفيذه بتواصل جرعات التسكين من القروض التّي تبتلعها نفقات التصرّف والتسيير. هذا التبنّي الكامل لتوصيات صندوق النقد الدولي والسعي الحكومي الحثيث لتنفيذه، والذّي قطعت حكومة يوسف الشاهد جزء كبيرا منه على صعيد القطاع البنكي والمالي وتخفيض دعم المواد الأساسيّة والمحروقات والشراكة بين القطاعين العم والخاصّ، اصطدم بإصرار المكتب التنفيذي السابق على تعطيل هيكلة القطاع العمومي، لكن دون افشال المخطّط بشكل نهائيّ. مناورة الحكومة لتجنّب التصعيد خلال شهر ديسمبر الفارط لا تعني تخلّيها عن نواياها تجاه قطاع الوظيفة العموميّة، بل تأجيلا لمعركة سيكون على القيادة النقابية أخذها بالحسبان منذ اللحظات الأولى بعد تنصيبه.

منظّمة الأعراف: الشريك اللدود

لم ينجح الحوار الوطني الذّي انطلق في الخامس من شهر أكتوبر 2013 والمناخ “التوافقي” في إخفاء التباين الكبير بين رؤى الطرفين الأقوى والأكثر تأثيرا في الرباعيّ الراعي للحوار ممثّلين في قطبي الإنتاج في البلاد؛ منظّمة الأعراف ومنظّمة الشغيلة.

رغم تراجع موجة المواجهات خلال الشهر الأخير بين الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية مع الوصول إلى اتفاق مبدئيّ باستئناف الحوار حول الزيادة في الأجور في القطاع الخاصّ، وانشغال قيادة الاتحاد بما عرف بأزمة قانون المالية لسنة 2017. إلاّ أنّ ملفّ القطاع الخاصّ الذّي يعدّ أكثر من مليوني عامل وموظّف ما يزال أحد أصعب القضايا التي لم يتمكّن المكتب التنفيذي السابق من حلّها رغم سلسلة الحوارات والتصعيد طوال السنتين الأخيرتين.

بعد الامضاء على اتفاقيّة الزيادة في القطاع العام في سبتمبر 2015، وجّه الاتحاد العام التونسي للشغل خطابه نحو الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة ليطالبها بوقف المماطلة والجلوس إلى طاولة الحوار لبحث سبل تحسين المقدرة الشرائية لموظّفي القطاع الخاصّ ومعالجة المشاكل العالقة على غرار معضلة التشغيل الهشّ. مطالب جوبهت بالتجاهل ومحاولة التملّص من الخوض في هذا الموضوع بدعوى صعوبة الظرف الاقتصاديّ ومراعاة الوضع الاقتصاديّ المتأزّم للمؤسّسات الخاصّة. ولكن الاتحاد العام التونسي للشغل مضى قدما في سعيه لحسم ملفّ القطاع الخاصّ مهددا بإضراب عام في جميع المؤسّسات الخاصّة في سابقة تاريخيّة مثّلت استثناء في تاريخ العمل النقابيّ. تهديدات تحوّلت إلى خطوات عملية في الحشد والتحضير للإضراب العام عبر إعلان تاريخ 20 أكتوبر يوما للإضراب في صفاقس شاركت فيه أكثر من 165 مؤسّسة خاصّة.

لكنّ المسار التصاعدي في العلاقة بين المنظّمتين، تراجع بعد تأجيل الإضراب العام الوطني في القطاع الخاص يوم 25 نوفمبر 2015، على إثر العملية الإرهابية في شارع محمد الخامس قبل ذلك التاريخ بيوم.

عودة منظّمة الأعراف إلى طاولة الحوار في بداية سنة 2016، وامضاؤها اتفاقا بخصوص الترفيع في الأجور وصرف المنح الخاصة بسنة 2015، ظلّ حبرا على ورق بتعلاّت مختلفة وأعاد مناخ التصعيد الذّي بلغ ذروته مع تهديد الاتحاد العام التونسي للشغل بإضراب عام جديد في نهاية شهر نوفمبر 2016. مرّة أخرى تلجأ منظّمة الأعراف للمناورة وتتعهّد باستئناف المفاوضات في 6 ديسمبر 2016.

المكتب التنفيذي المنتخب سيواجه جولة جديدة من المفاوضات وسيخوض شوطا آخر من لعبة ليّ الأذرع مع طرف يملك هامشا واسعا من الحركة والمناورة، يعود بالأساس إلى حضور منظّمة الأعراف كلاعب سياسيّ أساسي ب21 نائبا يمثّلون 10% من نوّاب المجلس الجديد. إضافة إلى انتماء معظم نوّابها لأحزاب التحالف الحاكم، تركيبة انعكست في تناغم المواقف والرؤى بين الحكومة ومنظّمة الأعراف حول الملفّات الاقتصاديّة الكبرى المتعلّقة بمستقبل القطاع العموميّ وبرنامج الشراكة بين القطاعين الخاصّ والعامّ والتسهيلات المطلوبة للتشجيع الاستثمار كمراجعة مجلّة الاستثمار والمنظومة الجبائيّة. كما يظلّ ضعف الوضع المهني لعملة القطاع الخاص هاجسا أساسيا يؤرّق القيادة النقابيّة ويعطّل اندفاعها نحو التصعيد أكثر ضدّ منظّمة الأعراف، التي تدرك جيّدا ثقل ورقات ضغطها وأحسنت طوال السنوات الماضية اللعب بها.