في تواصل للأزمة بين الحكومة والسلطة القضائيّة، عمد القضاة العدليين والإداريين والماليين اليوم الاثنين 09 جانفي 2017 إلى تأجيل النظر في جميع القضايا بمختلف أطوارها وتأخيرها، بداية من هذا التاريخ إلى غاية الجمعة 13 جانفي في جميع محاكم البلاد. وتأتي هذه الخطوة التصعيديّة استجابة لقرار المجلس الوطني لجمعية القضاة التونسيين عقب إجتماعهم يوم 7 جانفي الجاري. الجلسة الأولى للمجلس الأعلى للقضاء تحوّلت إلى نقطة الخلاف الأساسية بين القضاة والسلطة التنفيذية وسببا في مواجهة تداخل فيها الإشكال القانوني بالحسابات السياسية.

مجلس أعلى للقضاء رهين التجاذبات

منذ انتخاب أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، في 23 أكتوبر 2016، ظلّ تاريخ الجلسة الأولى لانعقاده معلّقا رغم تحديدها قانونيا بمدّة شهر بعد الانتخابات. إحالة الرئيس الأوّل لمحكمة التعقيب، المنوط إليه الدعوة لافتتاح أعمال المجلس إلى التقاعد في 30 نوفمبر 2016، أدخل مسار هذه الهيئة الدستورية في دوامة من التجاذبات التي وصلت إلى طريق مسدود بين السلطة التنفيذية وقسم كبير من القضاة التونسيين أدّى إلى التحرّك الاحتجاجيّ القاضي بتأجيل النظر في جميع القضايا بداية من يوم 9 جانفي الجاري ولمدّة 5 ايّام.

وفي حين تتهّم جمعية القضاة التونسيّين رئاسة الحكومة والسلطة التنفيذيّة ككلّ بالسعي إلى إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء ونسف استقلالية القضاء، لاذت رئاسة الحكومة بالصمت ممتنعة حتّى هذه اللحظة عن الإمضاء على الترشيحات المقدّمة من قبل الهيئة الوقتية للقضاء العدلي لسدّ الشغور الحاصل في المجلس الأعلى للقضاء.

السلطة التنفيذيّة تبحث عن منفذ لضرب استقلالية القضاء

يؤكّد القاضي بالمحكمة الإدارية، والكاتب العام لجمعية القضاة التونسيّين حمدي مراد أنّ السبب الحقيقي للأزمة الراهنة سياسي بالأساس. ويشير هذا الأخير أنّ الخلاف يعود إلى رفض رئاسة الحكومة الإمضاء على قائمة التسميات التي تقدّمت بها الهيئة الوقتية للقضاء العدلي التي تقوم بدور الضامن لاستقلالية القضاء إلى حين تركيز المجلس الأعلى للقضاء. هذا الرفض أدّى بحسب محدّثنا إلى بقاء محكمة التعقيب دون رئيس وهو ما انجرّ عنه شغور رئاسة الهيئة الوقتية وتعذّر انعقاد الجلسة الأولى للمجلس الأعلى للقضاء وفق الفصل 73 من القانون الداخلي للمجلس.

ويفسّر السيّد حمدي مراد موقف الحكومة بسعيها إلى الضغط على القضاة لفرض سلطتها التقديريّة على القطاع والتدخّل مجدّدا في السلطة القضائيّة عبر التدخّل في التسميات وتحديد تركيبة المجلس الأعلى للقضاء. وتحاول الحكومة التستّر بغطاء قانوني لتمرير مشروعها السياسي وذلك عبر إلغاء الهيئة الوقتية للقضاء العدلي والتعلّل بعدم قانونية الترشيحات المقدّمة من قبلها، على الرغم من أنّ الحكومة تعاملت بشكل مغاير مع نفس الهيئة عند تعيين الدوائر الجنائيّة المتخصّصة في العدالة الانتقالية في 19 ديسمبر 2016. وفي نفس السياق، أكّد كاتب عام جمعية القضاة التونسيّين أنّ محاولة فرض وصاية السلطة التنفيذيّة على السلطة القضائيّة ليست بالجديدة، حيث سبق لحكومة علي العريّض أن أصدرت أوامر تعيين في السلك القضائي ليتمّ فيما بعد إسقاط التعيينات من قبل المحكمة الإداريّة في ديسمبر 2013.

وقد حذّر القاضي حمدي مراد أنّ العديد من الأطراف تحاول تصوير القضيّة على أنّها خلاف قانوني بحت، بينما تتجاوز أبعادها الإشكالات الترتيبيّة لتمسّ من استقلالية القضاء التونسي ومسار تكريس الفصل الحقيقي بين السلطات الثلاث. ليختم موضّحا أنّ جمعية القضاة التونسيّين مصرّة على المضيّ قدما في تحرّكاتها الاحتجاجيّة حتّى إمضاء التسميات ونشرها في الرائد الرسمي، وتبقى جميع الخيارات متاحة للتصعيد في حال انتهاء المهلة الأخيرة وتواصل التجاهل الحكومي لمطالب القضاة التونسيّين. أمّا عن أشكال التصعيد فتبقى بحسب محدّثنا منوطة إلى المجلس الوطني للجمعية وهياكلها التي ستتخّذ الخطوة المناسبة في علاقة مع الموقف الحكومي.

التفاف على قانون المجلس الأعلى للقضاء وتداخل المصلحة الخاصة والعامة

القاضية سامية دولة عبّرت من جهتها عن قراءة مغايرة للأزمة الراهنة بين الجمعية التونسية للقضاة والحكومة. حيث اعتبرت أنّ الترشيحات المقدّمة لرئاسة الحكومة من قبل الهيئة الوقتية للقضاء العدلي لسدّ الشغور في المجلس الأعلى للقضاء مخالفة للقانون وهو ما يفسّر امتناع رئيس الحكومة عن امضاءها. وتستند السيّدة سامية دولة في موقفها إلى أنّ الهيئة المذكورة جاءت في إطار العدالة الانتقاليّة وينتهي دورها بمجرّد تركيز المجلس الأعلى للقضاء حسب القانون الأساسي المؤرّخ في 13 ماي 2013. ولكنّها بمحاولة فرضها ترشيحاتها تغتصب ملكيّة المجلس الأعلى للقضاء. وتبيّن محدّثتنا أنّ “أطرافا قضائية” لم تستسغ نتائج انتخابات المجلس فسعت إلى تغيير نتائج الانتخابات عبر التدخّل في القضاة المعيّنين بصفتهم. وتوضّح هذه الأخيرة آلية التدخّل الذّي وصفته باللا شرعي من قبل الهيئة الوقتية للقضاء العدلي في استغلال شغور منصب الرئيس الأوّل لمحكمة التعقيب المحال على التقاعد والوكيل الأوّل لنفس المحكمة لفرض تسميات لا تحظى بإجماع كلّ القضاة. كما حمّلت السيّدة سامية دولة جزء من مسؤولية الخلاف الراهن إلى الرئيس الأوّل لمحكمة التعقيب الذّي تراخى في الدعوة إلى انعقاد جلسات المجلس الأعلى للقضاء منذ 14 نوفمبر 2016، ولكنّ تغليبه لمصلحته الخاصّة ورغبته في التمديد التي عبّر عنها صراحة في وسائل الإعلام كانت وراء تأجيل أعمال المجلس والوصول إلى هذه المرحلة.

أمّا عن الحلّ، فترى القاضية دولة أنّ عددا من القضاة حاولوا تجاوز الأزمة بالدعوة إلى انعقاد جلسة بالاعتماد على الثلث كما يخوّل لهم القانون ولكن لعدم اكتمال النصاب، فقد تمّ تأجيلها إلى جلسة ثانية حضرها نصف أعضاء المجلس، إلا أنّ المتغيّبين طعنوا في شرعيتها. وتختم هذه الأخيرة في انّ الحلّ يكمن في الإذعان لقرار القضاء الإداري الذّي أوكلت إليه مهمّة حسم الخلاف، داعية جميع القضاة إلى احترام المؤسّسات الدستورية للدولة والقبول بحكم المحكمة الإدارية أيّا كان، أو اللجوء إلى تنقيح القانون وإلغاء الأحكام الخاصّة بالهيئة الوقتية للقضاء العدلي.