مع بداية سنة 2016، كاد الملفّ الاقتصادي أن يطيح برئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد إثر الحراك الاجتماعي الذي انتشر في أغلب ولايات البلاد احتجاجا على تواصل غياب آفاق حقيقية أو سياسات جديّة لحلّ معضلات التشغيل وتراجع النمو وعجز الموازنات. بدوره أدرك رئيس الحكومة الجديد بعد ثمانية أشهر أنّ الاقتصاد سيكون قادح جولة جديدة من الانتفاضات أو صمّام امان لضمان الاستقرار وتثبيت حكومته، ليغلب الشأن الاقتصاديّ على خطابه الأوّل في مجلس نوّاب الشعب في 26 أوت 2016.

الخطابات والبرامج والوعود والوعيد، لم تفلح في إيقاف المسار التنازليّ للوضع الاقتصاديّ، إذ تكشف المؤشّرات الاقتصاديّة تواصل تطوّر العجز وتراجع النموّ.

ثنائيّة تطوّر العجز وتراجع النموّ

مع اقتراب نهاية السنة، كشفت مختلف المؤسّسات العمومية على غرار البنك المركزيّ والمعهد الوطني للإحصاء وعدد من الوزارات ذات العلاقة بالشأن الاقتصادي والمالي عن حصيلة سنة 2016، لتنشر تباعا مؤشّرات تثبت تواصل السنوات العجاف التي عجزت الحكومات المتعاقبة عن وضع حدّ لها عبر اجترار نفس السياسات والخيارات الاقتصاديّة ومحدودية الآفاق والمراهنة على مجاراة الوضع وتطبيق التوصيات الدوليّة.

المؤشرات الاقتصاديّة السبع الرئيسيّة، تعكس تواصل الحالة التدهور الاقتصاديّ واستمرار ثنائيّة تطوّر العجز وتراجع النموّ. حيث شهدت سنة 2016 تراجع النموّ الاقتصاديّ ب0.3% عن سنة 2015، ليستقرّ عند نهاية السنة عند معدّل 1.8%. بدوره لم يتمكّن الدينار التونسي من تجاوز أزمته المتواصلة منذ أكثر من أربع سنوات، والتي فقد خلالها قرابة 20% من قيمته أمام الدولار، لتراجع سعر صرفه من 1.970 سنة 2015 إلى 2.202 مع نهاية السنة الجارية. مناخ اقتصاديّ واجهته الحكومة الأولى هذه السنة بإقرار التخفيض في دعم المحروقات والمواد الأساسيّة بقرابة 600 مليون دينار، فلم تتجاوز مخصّصات الدعم لسنة 2016 تقريبا 2230 مليون دينار مقابل 2883 مليون دينار في السنة السابقة.
أمّا المؤشّرات التّي “تطوّرت”، فشملت البطالة التي تفاقمت من 15.4% سنة 2015 إلى 15.5% سنة 2016، كما ارتفع عجز الميزان التجاري إلى 31.10% خلال هذه السنة مقابل 30.38 خلال السنة الماضية.
المؤشّر الثالث الذّي واصل نسقه التصاعدي كان نسبة المديونيّة، التي ناهزت 56 مليار دينار، لتزيد من إثقال كاهل الدولة، مستنزفة 62% من ناتجها المحلي الخام بارتفاع فاق 10% عن السنة السابقة. هذه الحصيلة انعكست بشكل آلي على عجز الموازنات العمومية الذي تفاقم إلى 6500 مليون دينار، أي ما يعادل ضعف الرقم المتوقع حسب قانون المالية لسنة 2016، حيث تطوّر العجز من 4.8% سنة 2015 إلى 5.7% نهاية هذه السنة.

اجترار سياسات انتاج البؤس والفشل

الفشل المتوارث عبر مختلف الحكومات خلال السنوات الخمس الماضية، ينبع في الأساس من التوافق “الاستثنائي” بين مكوّنات الساحة السياسيّة التي تداولت السلطة على انتهاج نفس الخيارات الاقتصادية التي لم تفلح في إيقاف المنحى المتدهور للوضع الاقتصاديّ.

بدأ من الإصرار على التداين كحلّ وحيد لمجابهة عجز الموازنات العمومية، مرورا إلى تبنّي نفس الخيارات التنموية وتكريس الاختلال الجهويّ، وصولا إلى المضيّ قدما في تحميل الفئات الأضعف تبعات الارتدادات السلبية للأزمة الاقتصاديّة وغياب الإرادة الحقيقيّة لخلق موارد جديدة للدولة ومحاربة التهريب والتهرّب الجبائيّ ومراجعة عقود استغلال الثروات الطبيعيّة، اتّفقت مختلف الحكومات وآخرها فريق رئيس الحكومة الجديد يوسف الشاهد على مواصلة سياسة التسكين والحلّ الوقتي للأزمات الاقتصادية والاجتماعيّة، إضافة إلى اللجوء إلى الاستعراضات الكبرى وكسب الوقت بالأمل الزائف، على غرار المؤتمر الدولي للاستثمار الذّي نظّمته تونس نهاية شهر نوفمبر 2016، والذّي تناولت نواة في مقالات سابقة محدودية النتائج المنتظرة منه وارتكازه على المقوّمات القديمة لتوزيع الثروة والاستثمارات والتي أثبتت إفلاسها في ديسمبر 2010.

رغم المبادرات وطاولات الحوار والإيهام بالبحث عن بدائل وحلول لأزمة الاقتصاد التونسي، إلاّ أنّ الحكومة الحالية تسير قدما في سياسة اجترار الفشل. خيار عكسته ملامح البرنامج الاقتصادي ليوسف الشاهد خلال جلسة تنصيبه في مجلس النوّاب نهاية شهر أوت الماضي، وأكّده قانون المالية لسنة 2017 الذّي ارتكز على تحميل الفئات الأضعف في المجتمع التونسيّ ضريبة تقليص النفقات العمومية وعجز موازنات الدولة. خطوة كادت توصل البلاد إلى حالة من الشلل التام بعد تصاعد الخلاف بين منظّمة الشغيلة والحكومة حول ميزانية الدولة. جولة أولى تنذر بسنة جديدة زاخرة بالمواجهات مع مختلف الأطراف النقابية والاجتماعيّة خصوصا وأنّ باقي فصول هذا القانون لم تبحث عن حلّ للمطالب الاجتماعية العاجلة والعجز المتفاقم لموازنات المصالح الحكومية بقدر محاولتها الإبطاء من نسق الانحدار نحو المجهول.