في الوقت الذي تحرّك فيه الشارع التونسي، بمعارضاته الحزبية ومنظماته الوطنية وبعض كتله البرلمانية، نحو اتهام جهاز المخابرات الصهيوني “الموساد” بتصفية المهندس محمد الزواري، كان وزير الداخلية الهادي مجدوب يحشد كل الحجج الأمنية –في ندوة صحفية التأمت مساء أول أمس- لينفي وجود ارتباط قطعي بين حادثة الإغتيال وجهاز استخبارات محدّد الهوية.

المعطيات التي كشفها وزير الداخلية لم تكن سوى تأكيدا رسميا لتسريبات أمنية سابقة، لتظل بذلك أسئلة الإغتيال الجوهرية معلقة: ماهي هوية المنفذين المباشرين؟ ما هي الأدوات الداخلية التي سهلت الإغتيال (ليست الوهمية)؟ وماهي ارتباطاتهم السياسية والاستخباراتية؟

نفي العنصر السياسي للإغتيال

غياب إجابات أمنية وسياسية حول هذه الأسئلة لا يعود فقط إلى العجز الأوّلي للأجهزة الأمنية في الوصول لهذه المناطق المخفية، وإنما يكشف عن اتجاه رسمي يعارض الذهاب بعيدا في فرضية التصفية الاستخباراتية، متعللا بعدم توفر أدلة قطعية أو بضرورة مراعاة الأعراف الدبلوماسية. من هذا المنطلق سعى وزير الداخلية إلى نفي توفر معطيات لدى الأجهزة الأمنية بخصوص انتساب المهندس محمد الزواري لحركة المقاومة الفلسطينية “حماس”، خصوصا لجناحها العكسري المعروف بـ”كتائب الشهيد عزالدين القسّام”. يصطدم هذا النفي بمعطيات أخرى تؤكد تردد الزواري على الكثير من دول المنطقة المنخرطة في الصراع الإقليمي (تركيا، لبنان، سوريا)، علاوة على تردده على قطاع غزة عبر أنفاق معبر رفح للمشاركة في تطوير برنامج طائرات دون طيار الذي تعمل عليه حركة حماس، وفق ما ورد في بيانات كتائب القسام.

انسجاما مع استراتيجيا تهميش الصبغة السياسية للاغتيال، أشار وزير الداخلية إلى أن الأجهزة الأمنية لم ترصد للمهندس الزواري أي نشاط سياسي أو حزبي منذ سنة 2011، معرّجا على انتماءه التاريخي سنة 1989 إلى “حركة الاتجاه الإسلامي”، ولعل الوزير لم يسمّي الأشياء بمسمياتها لأنه في التاريخ المذكور أصبحت حركة الاتجاه الاسلامي تطلق على نفسها حركة النهضة (منذ سنة 1988). وبسبب هذا الانتماء تعلقت بمحمد الزواري أحكام قضائية غيابية اضطرته سنة 1991 إلى الفرار إلى ليبيا ثم إلى السودان. ويلوح أن وزير الداخلية فضل عدم الدفع صراحة باسم حركة النهضة في الملف مراعاة للموازنات الحكومية القائمة، خصوصا وأن رئيس المكتب السياسي لحركة النهضة، نور الدين العرباوي، نفى انتماء الزواري للحركة.

الآثار الاستخباراتية للإغتيال

تورط عناصر أجنبية في عملية الإغتيال (تخطيطا وتنفيذا) اضطر وزير الداخلية إلى بناء استنتاج أمني أوّلي حول إمكانية انتماء المخطّطين لجهاز استخبارات أجنبي، دون أن يقدم فكرة عن ملامحه أو عن هوية المخططين، سوى أنهما كانا يخططان (شخصان) للجريمة من خارج التراب التونسي وبالتحديد من النمسا والمجر. وفي الأثناء قدمت وزارة الداخلية معطيات ضبابية عن الشخصين الذين أطلقا الرصاص مرجحة أنهما أجنبيين أيضا، فقط من خلال ملامحهما في تسجيلات كاميرات المراقبة وحسب شهود عيان.

رغم الآثار الاستخباراتية الظاهرة لجريمة الإغتيال فإن الأجهزة الأمنية تبدو عاجزة عن الإمساك بخيوطها –أو ليست لديها الإرادة- وبالإمكان استجلاء نقاط الضعف الأمني في المسائل التالية:

  1. التخطيط الأولي للجريمة –حسب معطيات وزارة الداخلية- انطلق عبر موقع إلكتروني يقدم عروضا للعمل في شركة إنتاج وثائقي، وشكل هذا الموقع مصيدة لانتداب عناصر تسهل عملية التنفيذ دون أن تكون على علم بالهدف. هذا الموقع الذي يعد واجهة أولية للتنفيذ أكدت وزارة الداخلية عجزها عن جمع معطيات تقنية حوله وحول هوية القائمين عليه، إذ أشار وزير الداخلية إلى أن الموقع المذكور “كان مُؤمّنا بطريقة جيدة”.
  2. الوصول إلى هوية المنفذين المباشرين يعد من الأهمية بمكان، ولكن إلى حد الآن لم تتمكن الأجهزة الأمنية سوى من جمع معطيات طائشة حول هوية الشخصين الذين قاما بإطلاق الرصاص، وفي هذا السياق أكد وزير الداخلية أن “الوزراة لا تتوفر على معطيات بخصوص مغادرة المنفذين للتراب التونسي أو بقاءهم”.
  3. ما توصلت إليه الأجهزة الأمنية إلى حد الآن –والذي يعتبره الوزير نجاحا منقطع النظير- لم يتجاوز حدود الكشف عن الواجهة الوهمية للتنفيذ التي تضم تونسيين، من بينهم الفتاة التي عادت إلى تونس بعد أن أقنعتها الأجهزة الأمنية بذلك. وقد تم استخدام هؤلاء دون علمهم –وهو ما أكدته الداخلية- في كراء وشراء سيارات (استعملت في التنفيذ) وفي جمع معطيات حول نشاط المهندس الزواري تحت يافطة العمل الصحفي الوثائقي. ولكن لم يكن للمخطط أن ينجح دون وجود شبكة لوجيستية داخلية أخرى، كان دورها مراقبة الهدف وجمع معطيات حول تنقلاته ومقر إقامته، وتوفير الأسلحة وترتيب انسحاب المنفذين (المنفذين لم يستعملا سيارات التنفيذ في الهروب).
  4. تكليف الإدارة الفرعية لمكافحة الإجرام بالقرجاني بالأبحاث الأولية يطرح تساؤلا حول مدى قدرة هذا الجهاز على فك ملابسات جريمة من هذا النوع، تطغى عليها الآثار الاستخباراتية والارتباطات الإقليمية. ويُحيل هذا التكليف الأمني الذي لا يتناسب مع طبيعة الإغتيال على استقراء الوضع الداخلي للأجهزة الأمنية، الذي يتسم بحرب الصلاحيات والمواقع التي تظهر بين الفينة والأخرى، ولعل العنصر الأكثر شدا للانتباه في هذا المضمار تزامن الإغتيال مع استقالة المدير العام للأمن الوطني عبد الرحمان الحاج علي، الذي قالت الوزارة أنه استقال لأسباب ذاتية، وهي حجة لا تستقيم في ظل الجدل السياسي والأمني الدائر حول هذه الشخصية.

إعلام الاحتلال واستراتيجيا الإحراج

في الوقت الذي كان فيه الرأي العام التونسي يعيش جدلا حول طبيعة الإغتيال وارتباطاته المحلية والإقليمية، كان إعلام الاحتلال “الاسرائيلي” يدافع عن أطروحة اغتيال جهاز الاستخبارات “الموساد” للمهندس محمد الزواري، منطلقا من تكوينه الأكاديمي (تطوير برنامج طائرة دون طيار والعمل على برنامج غواصة بحرية) ومن ارتباطه السياسي بحركة حماس. وقد كانت مقدمة نشرة الأخبار في القناة “الإسرائيلية” العاشرة، التي تشكل أحد أذرع الدعاية لجيش الاحتلال، تستهل تقريرها حول الحادثة قائلة: “في عملية مهنية وسرية اُغتيل هناك يوم الخميس مهندس الطائرات بدون طيار التابع لحماس محمد الزواري على بعد آلاف الكيلومترات من إسرائيل”. وقد بلغ الأمر بهذه القناة إرسال أحد صحفييها -الذي يدعى “موآف فاردي”- إلى عين المكان، وفي التقرير الذي نقله كان يشير بإصبعه “هنا يوجد نجاح وإذا ما كان هذا نجاحًا لإسرائيل فكما نعرف نتنياهو سيجد طريقة للإشارة إلى حصته من هذا النجاح”.

عموما كان إعلام الاحتلال يعالج حادثة الإغتيال من زاويتين: الأمن القومي لـ”إسرائيل”، ثم الارتباط العسكري والسياسي بين المهندس التونسي وحركة حماس. وقد اندرج هذا الاهتمام ضمن استراتيجيا دعائية تهدف إلى الضغط على السلطات التونسية لإجبارها على عدم الذهاب كثيرا في إثبات فرضية التورط المباشر لجهاز “الموساد”، لأنها ستجد نفسها مُتهمة من قبل الكيان الصهيوني وحلفاءه الغربيين باستقبال نشاط “منظمة إرهابية” (حماس) على أراضيها، سبق وأن صنفتها الولايات المتحدة الأمريكية ضمن الـ40 منظمة الموضوعة على قائمة الإرهاب في العالم. ويلوح فعلا أن السلطات التونسية قبلت بهذا الضغط من خلال نفي الأجهزة الأمنية لعلمها بوجود ارتباط بين محمد الزواري وحركة حماس، ثم نفي التنسيق المعلوماتي مع هذه الأخيرة بخصوص فك ملابسات الإغتيال.

ارتهان النظام السياسي الحاكم للمواقف الغربية كلما تعلق الأمر باتخاذ مواقف مستقلة إزاء الصراع الإقليمي والدولي، سيشكل مكبلا أمام الذهاب في فرضية الجريمة الاستخباراتية إلى أقصاها –والتي تدل كل المؤشرات أن الكيان الصهيوني متورط فيها بحكم الاستفادة الأمنية المباشرة-، كما أن الخطب الحكومية العصماء حول “احترام السيادة الوطنية” لن تفلح في رد الاعتبار لمواطن تونسي اغتيل في وضح النهار في بلاده، ولن تخفي أيضا الآثار الظاهرة للمخططات الاستخباراتية الأجنبية التي تُحاك على التراب التونسي.