المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

في قراءة سوسيولوجية لديناميكية التطور الإقتصادي والتحول الإجتماعي، انتقد في هذا المقال أهمية مؤتمر الإستثمار الخارجي ”تونس 2020“ الذي إنعقد هذا الأسبوع في تونس كحل للأزمة السياسية والإجتماعية والإقتصادية لتونس مابعد الثورة. خلافا لهذه الأطروحة البالية، أرى أن التطور الإقتصادي من خلال التركيز على السيولة المالية ونقل الخبرات والتكنولوجية لن يكون له أي نجاعة في غياب التطور الثقافي المحلي والعصرنة المؤسساتية. الأسوأ في غياب هذين الضرورتين هو تفاقم الإختلال الإقتصادي بين الجهات وتدهور إمكانيات التنمية البشرية المستدامة

أسطورة الإستثمار الخارجي

تم الترويج السياسي والإعلامي لمؤتمر الإستثمار الخارجي على أنه حدث هام من الناحتين الإقتصادية والسياسية. إذ تم التأكيد على أن ضخ السيولة النقدية من خلال الدعم المباشر أو قروض ذو نسب منخفضة هو الحل المنهجي الوحيد القادر على الحد من مديونة الدولة والدفع بمشاريع تنموية في القطاعين العام والخاص قادرة على التخفيض من نسبة البطالة. غير أن الجدير بالإهتمام هنا أن المشاريع المنتظرة من جانب القطاع العام أو الخاص تحيل بالأساس إلى حلول وقتية ومحدودة القدرة على ترسيخ الإصلاح الإقتصادي المنشود. ففي قراءة سريعة للتقرير الصادر عن وزارة التنمية والاستثمار والتعاون الدولي، نرى أن غالبية المشاريع تتجه نحو تعزيز البنية التحتية وتطوير المنشآت السياحية في حين تظل قطاعات حيوية كالصحة والتعليم هامشية. محدودية تأثير الإستثمار الخارجي في إصلاح المنظومة الإقتصادية في بلد نامي كتونس يكمن مثلا في ضرورة توفير الحكومة التونسية لما نسبته 7% كتكملة للتمويل الضروري في المشاريع العمومية في مايخص الشراكة بين القطاع العام والخاص.

وصفي للإستثمار الخارجي الموعود به خلال مؤتمر ”تونس 2020“ بالسراب السياسي هو التأكيد على أطروحة أن الاسثمارات الخارجية المباشرة غالبا ما تستجيب لتجاذبات سياسية ضيقة بعيدة عن النجاعة الاقتصادية. فالغالب على الدراسات العلمية حول مدى أهمية الاستثمار الخارجي لاقتصادات البلدان النامية هو الإجماع على سلبية وعدم نجاعة هذا النوع من رأس المال على المدى المتوسط والطويل . على سبيل المثال، أشار هوسمان وفرنانديز-أرياس1 (2000) وألبوكيرك2 (2000) إلى أن نسبة عالية من الإستثمار الأجنبي المباشر في إجمالي تدفقات رأس المال هي علامة على ضعف البلد المضيف لهده الإستثمارات بدلا من قوته. هذا السراب السياسي مبني على وهم الحكومة الحالية في مركزية مؤتمر ”تونس 2020“ للدفع بمسار الإصلاح الإقتصادي وتعزيز التغيير السياسي والإجتماعي.

غياب الاصلاح الفكري والسياسي الشامل

في ظل غياب رؤية بعيدة المدى لحلول هيكلية ومؤساستية لإصلاح جذري لإقتصاد تونس النامي التي تغلب عليه مشاكل مزمنة كالفساد الإداري والمالي، يبقى الإعتماد على التمويل الأجنبي على مر الحكومات المتعاقبة مؤشرا على حتمية الفشل. في هذا السياق، أشار زياد بهاء الدين، الرئيس السابق لهيئة الاستثمار المصري، إلى خشيته من أن ”تحقيق إصلاح مالى ونقدى فى الأجل القصير دون العمل على إجراء تغيير جذرى فى الإطار الاقتصادى والسياسى الأشمل“ قد “الجهد هباء ونجد أنفسنا فى النهاية مثقلين بديون هائلة دون أن يتحقق معها إصلاح مستدام“3.

غالبا يقوم مشروع الاصلاح بأشكاله ومقوماته المتعددة على مركزية وشمولية انخراط الفرد والمجموعة في هذا المشروع. أشار العديد من علماء الإجتماع مثلا إلى أولوية تقبل الفرد أو الأفراد لضرورة الاصلاح وتقبل امكانيته عن طريق الانخراط في المجهود العام لإنجاح الإصلاح المرغوب فيه (الإقتصادي أو السياسي إلى غيره) وإحلاله بشكل مستديم. فنظريات التطور الإجتماعي كالتضامن العضوي لدى اميل دوركايم أو تنظيم الطبقة العاملة لدى ماركس أو الإيتقية المهنية لدى ويبر تركز على ضرورة التطور الثقافي لدى الفرد والمجموعة كمخول لثورية الخلق والإبداع الممكنة لمشروع الإصلاح. نفس التمشي يمثل أساس نظريات التطور من الناحية القاعدية (الفرد والمؤسسة) أو العلوية (الإدارة المركزية والدولة). من هذا المنطلق دعا هوسمان وفرناندز-أرياس الدول التي تعول بشكل كبير على الاستثمارات الخارجية المباشرة على التعويل بدلا على تحسين المناخ العام للاستثمار والإصلاح المؤسساتي. على العكس، تشير مختلف الدراسات حول مناخ الإستثمار في تونس إلى إستمرار السياسات الإقتصادية القديمة4.

توقع الأسوأ

خطورة إنعدام تشريك الأفراد والمجموعة في الطرح الثقافي لمشروع الإصلاح والإقتصار على المنهج العلوي (Top-down) من جهة و غياب الرؤية الشاملة والإبتكار في التطوير الإقتصادي من جهة أخرى سيؤديان حتما إلى عكس المأمول من الندوة الدوليّة ”تونس 2020“. فكما إستنتج زياد بهاء الدين فإن إنعدام الإصلاح الإقتصادي الجذري قد تباعا إلى تأزم المناخ الإقتصادي وإثقال ميزانية الدولة بديون هائلة. من أخرى، فخطط التنمية الجهوية المنبثقة من هذه الندوة تشير إلى إستمرارية إقصاء المناطق الداخلية وخاصة الشمال الغربي حيث لن تجاوز نصيب المناطق الداخلية 25% من مجموع المشاريع الإستثمارية5. قد تؤدي هذه الإستمرارية السياسة إلى تفاقم الإختلال الإقتصادي بين الجهات.

من الناحية الثقافية البحتة، هذا التخلي عن تحقيق أبرز مطالب الثورة التونسية كالتنمية الداخلية في ظل حكومة منتخبة ديمقراطية يفرز نتائج سياسية وإجتماعية أكثر تأثيرا و خطورة من تلك التي تم تجربتها تحت الأنظمة الدكتاتورية السابقة. بمعنى أخر، صيرورة عزلة الجهات الداخلية فيما بعد الثورة قد يؤدي إلى حالة من خيبة أمل وإغتراب سياسي وإجتماعي وثقافي قد يقوض الزخم الطوباوي التي أسست له ثورة 14 جانفي. فما يزيد القهر قهرا والاغتراب اغترابا أن لا جديد تحت الشمس في ظل سياسات إقتصادية وسياسية تعزز نفس مكونات الإقصاء والتهميش.

إذا كانت المقولة الشهيرة لنيتشه تعرف الغباء على أنه تكرار فعل نفس الشيء عدة مرات بنفس الأسلوب ونفس الخطوات وتوقع نتائج مختلفة، فإنني أعتقد جزاما أنه يجب توقع الأسوأ من حكومة تفتقر بشكل مدقع لخصال التجديد والإبتكار.

هوامش

  1. Ricardo Hausmann and Eduardo Fernandez-Arias, 2000, “Foreign Direct Investment: Good Cholesterol?”, Inter-American Development Bank Working Paper No. 417 (Washington).
  2. Ibid
  3. من أجل إصلاح اقتصادى حقيقى ومستدام زياد بهاء الدين
  4. تونس 2020 : حوافز التشجيع على الاستثمار و الأموال المهدورة ياسين النابلي
  5. الندوة الدولية للإستثمار تونس 2020: الأرقام الأخرى، محمد سميح الباحي عكاز