خيّمت جرائم الأمس القريب على جلسات الاستماع العلنيّة التي نظمتها هيئة الحقيقة والكرامة الأسبوع الفارط، لتتصدر ملفات الشهداء والجرحى لائحة الانتهاكات الجسيمة التي مارسها نظام بن علي عشيّة سقوطه. وقائع القتل بالرصاص وفتح النار على المتظاهرين وأسماء الجناة، أعادت عوائل الشهداء سردها من جديد. ولم يكن السؤال: من هم الجناة؟ بل كان السؤال: لماذا لم يُحاسبوا؟

كان القضاء العسكري على رأس المتّهمين بالتواطؤ مع الجناة، وقد وَصفت أم الشهيد أنيس الفرحاني أحكام الاستئناف العسكري الصادرة في 12 أفريل 2014 بـ”الصفقة”، مشيرة إلى تنازلات متبادلة جرت بين وزارة الدفاع ووزارة الداخلية من أجل تبرئة أمنيين وجنود. وتكررت -أثناء جلسات الاستماع- المطالبات بسحب الملفات من المحاكم العسكرية وإحالتها على الدوائر القضائية المتخصصة. هذه الدوائر يعتبرها البعض “ملاذا أخيرا” للكشف عن الحقيقة ومحاسبة الجناة، ولكن لا يُعرف الكثير حول هذه المنظومة القضائية التي ارتبطت نشأتها بسن قانون العدالة الانتقالية، وهل ستفلح فيما أخفقت فيه المحاكم العسكرية؟

familles-martyrs-ivd2

القضاء العسكري وطمس الوقائع

عدم الملاءمة بين الوقائع والأحكام تعد من أكبر الطعون الموجّهة للقضاء العسكري. إذ أصدر هذا الأخير في طوره الاستئنافي (12 أفريل 2014) أحكاما تراوحت بين عدم سماع الدعوى و5 سنوات سجن. وهي أحكام مُخفّفة مقارنة بتلك الصادرة في الطور الابتدائي، إذ عمدت محكمة الاستئناف العسكرية إلى تغيير التوصيف القانوني لجرائم القتل العمد أو المشاركة فيه وتعويضه بالقتل على وجه الخطأ.

إسقاط تهمة القتل العمد من طرف المحكمة العسكرية، مثّلت بالنسبة لعائلات الشهداء طمسا متعمدا للوقائع، وهو ما استدعى عودة بالذاكرة إلى مسرح الجريمة. كانت أول المتحدثات في جلسات الاستماع العلنية وريدة كدوسي، أم الشهيد عبد الرؤوف كدوسي، الذي تلقى أول الرصاصات من تعزيزات أمنية (وحدات تدخل) قدمت من العاصمة إلى مدينة الرقاب (سيدي بوزيد) يوم 9 جانفي 2011. وقد ذكرت والدته أن “هناك مقطع فيديو يوثق إطلاق الرصاص عليه من طرف الشرطة، عندما كان يهم بإنقاذ المتظاهر نسيم الجلالي من براثن أعوان الأمن”. وفي نفس اليوم تم إطلاق الرصاص على المتظاهر محمد جاب الله لأنه أراد إسعاف رؤوف.

تكرّر أسلوب تفريق المتظاهرين بإطلاق الرصاص الحي في عدة حالات أخرى، إذ رَوت فاطمة الهمّامي، والدة الشهيد أنيس فرحاني، الملابسات التي أدت إلى سقوط ابنها شهيدا مساء 13 جانفي 2011 بشارع ليون (باب الخضراء وسط العاصمة)، مشيرة إلى أنه “شارك في مسيرة رُفعت فيها أعلام تونس، لتتطور الأمور بقدوم سيارات أمنية، عمد بعض أعوانها إلى فتح النار مباشرة على المتظاهرين”. تلقى ابنها رصاصة على ساقه اليسرى، تسبّبت له في نزيف حاد نجم عنه الموت، وقد منِع أعوان الأمن زملاءه من إسعافه، ليُنقل بسيارة إسعاف بعد حوالي 45 دقيقة إلى مستشفى بن عروس والحال أن هناك العديد من المستشفيات القريبة مثل الرابطة وشارل نيكول.

أكدت والدة الشهيد أنيس فرحاني أن هناك شاهد عيان وثق بعض تفاصيل الحادثة بجهاز كاميرا، موجهة إصبع الاتهام إلى عون الأمن عبد الباسط بن مبروك الذي كان ضمن فرقة وحدات التدخل بحي الزهور يوم الحادثة. وقد حُوكِم المتهم بـ12 سنة سجن في الطور الابتدائي ليتم تخفيف العقوبة إلى 3 سنوات سجن في طور الاستئناف. وقد أنهى عقوبته في أفريل 2014.

من المحاكم العسكرية إلى الدوائر القضائية المتخصصة

الأحكام الاستئنافية التي أصدرها القضاء العسكري في 12 أفريل 2014، شكّلت مدخلا للمطالبة بسحب قضايا الشهداء والجرحى من المحاكم العسكرية وإحالتها على الدوائر القضائية المتخصصة المنصوص عليها في الفصل 8 من قانون العدالة الانتقالية المؤرخ في 24 ديسمبر 2013. وطبقا لهذا الفصل أحدِثت دوائر جناية متخصصة في العدالة الانتقالية –بمقتضى أمر مؤرخ في 8 أوت 2014- منتصبة بمقار محاكم الاستئناف بتونس وقفصة وقابس وسوسة والكاف وبنزرت والقصرين وسيدي بوزيد.

familles-martyrs-ivd3

استنادا إلى البناء التشريعي الجديد دخل ملف الشهداء والجرحى في مسارات مغايرة، إذ وقعت إحالة أعمال التحقيق والتقصي في هذه القضايا إلى لجنة البحث والتقصي التابعة لهيئة الحقيقة والكرامة. وفي هذا السياق كشفت علا بن نجمة، رئيسة لجنة البحث والتقصي، لموقع نواة أن “اللجنة تلقت أغلب الملفات المتعلقة بقضايا الشهداء والجرحى، وشرعت منذ مدة في أعمال التقصي والبحث في ملابسات الانتهاكات”. وأضافت بن نجمة أنه لا تتم إحالة الملفات على الدوائر القضائية المتخصصة إلا بعد ختم الأبحاث من قبل قضاة التحقيق الملحقين بالهيئة، الذين تتمثل مهمتهم في استكمال أعمال التحقيق ووضع التكييف القانوني للانتهاكات موضوع البحث.

من جهته أشار محمد بن سالم، رئيس لجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات صلب هيئة الحقيقة والكرامة، أن “الهيئة ستشرع في القيام بدورات تكوينية في قوانين العدالة الانتقالية للقضاة الملحقين بالهيئة، وهي بصدد انتظار الحركة القضائية القادمة لتشرع في إحالة الملفات على الدوائر القضائية المتخصصة التي تشكو حاليا من شغورات”. ويُذكر أن هيئة الحقيقة والكرامة تقوم إجرائيا بإحالة الملفات إلى النيابة العمومية، التي تقوم آليا بإحالتها للدوائر القضائية المتخصصة، وذلك حسب الفصل 3 من القانون عدد 17 لسنة 2014، المؤرخ في 12 جوان 2014.

مسار العدالة الانتقالية: عوائق وثغرات

بروز شبه إجماع سياسي وحقوقي منذ أفريل 2014 حول ضرورة ترحيل ملف الشهداء والجرحى إلى مسار العدالة الانتقالية، لا ينفي أن هذا المسار تعترضه بعض العقبات على مستوى التطبيق، أبرزها صعوبة النفاذ إلى أرشيفات الدولة، خاصة وزارتي الداخلية والدفاع. ويعد النفاذ إلى الأرشيف أهم المسالك المؤدية إلى كشف الحقيقة، وكان إخفاءه أحد الأسباب التي عززت عنصر الإفلات من العقاب في الفترة السابقة. في هذا السياق لم تنف علا بن نجمة، رئيسة لجنة البحث والتقصي صلب هيئة الحقيقة والكرامة، لموقع نواة وجود هذا العائق، مبيّنة تعويلها على دور المجتمع المدني في التحسيس بضرورة النفاذ للأرشيفات العامة والخاصة. ويُذكر أن الفصل 40 من قانون العدالة الانتقالية ينص على أن الهيئة تتمتع بصلاحية “النفاذ إلى الأرشيف العمومي والخاص بقطع النظر عن كل التحاجير الواردة بالتشريع الجاري به العمل”.

من جهة أخرى أكد البعض الآخر وجود خروقات في قانون العدالة الانتقالية متعلقة بالدوائر القضائية المتخصصة، إذ أكد المحامي شرف الدين القليل لموقع نواة أن “هناك خرق لمبدأ التقاضي على درجتين، وهو مبدأ دستوري وكوني، لأن الفصل 50 من قانون العدالة الانتقالية يعتبر القرار التحكيمي نهائيا غير قابل لأي وجه من أوجه الطعن أو الإبطال أو دعوى تجاوز السلطة، وكان من الأجدر التنبه لهذه النقيصة وإنشاء دوائر قضائية متخصصة استئنافية أيضا”.

إضافة إلى هذا وجَّه شرف الدين القليل انتقادا للفصل 8 من قانون العدالة الانتقالية مؤكدا أنه “فصل لا دستوري لأنه أُضيفت إليه جريمة لا ينظمها القانون التونسي [الدفع إلى الهجرة الاضطرارية لأسباب سياسية]، ويعد هذا خرقا للمبدأ القائل أنه لا يحاكم شخص إلا بمقتضى نص قانوني سابق الوضع”. وأوضح القليل أن هذه الثغرة يمكن أن تمثل مدخلا للطعن في دستورية مسار العدالة الانتقالية والدخول في مطب المحكمة الدستورية الذي سيخدم الجلادين على حساب الضحايا، وهو ما يتطلب الانتباه لهذا الفصل في اتجاه تنقيحه أو ملاءمة المجلة الجزائية له، على حد تعبيره.

هذه المآخذ القانونية وغيرها من العوائق ستضع ملف الشهداء والجرحى أمام فصل جديد، تُعلّق فيه آمال كثيرة على مسار العدالة الانتقالية، وفي نفس الوقت يزداد الشعور فيه بأن الجناة يُفلتون من المحاسبة في ظل انعدام إرادة سياسية مكافحة لثقافة الإفلات من العقاب.

familles-martyrs-ivd1