مساء 22 نوفمبر 2016، أطّل رئيس الجمهورية مرّة أخرى ليسهب في حوار دام أكثر من ساعة في تقديم التفسيرات والمبرّرات لإجراءات حكومة كان عرّابها منذ البداية، بدأ بجلسات الاستماع العلنية لضحايا التعذيب، مرورا بمشروع قانون المالية 2017 والأزمة مع الاتحاد العام التونسي للشغل، والعلاقة مع الولايات المتحدّة الأمريكية بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة ومجالات التعاون معها ومستقبلها، انتهاء بأزمة نداء تونس، انتقل الباجي قائد السبسي من محور لآخر ليدافع عن توجّهات الحكومة ويتبّناها موجّها كعادته الرسائل لحلفائه قبل خصومه.

هيئة الحقيقة والكرامة من المغضوب عليهم

البداية كانت مع جلسات الاستماع العلنية لضحايا انتهاكات حقوق الانسان خلال فترتي حكم الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن عليّ. هذا الحدث الذّي شغل المشهد الإعلامي المحلي والدولي على حدّ سواء شهد تغيّب رؤساء الجمهورية والحكومة ومجلس النوّاب، في حركة فُسّرت على انّها تعكس موقفا معاديا من الهيئة أو من مسار ومفهوم العدالة الانتقالية أو ربّما هروبا من استحضار حقبة كان لبعض الغائبين دور أو حضور فيها. رئيس الجمهورية الذّي فضّل متابعة الجلسات من بيته، حسب تعبيره، اكّد خلال حوار يوم أمس أنّ غيابه لم يكن وليد طارئ أو انشغال. حيث اعتبر نفسه في حلّ من حضور جميع المناسبات، خصوصا وانّ هيئة الحقيقة والكرامة كما جاء على لسانه “أهمّ إنجازات الترويكا والمجلس الوطني التأسيسي. كما أنّها مؤسّسة غير دستورية لا تخضع لمتابعته أو اشرافه، وفي المقابل “لم تعطي هي الأخرى ايّ اعتبار لرئيس الجمهوريّة”.

حالة الجفاء الواضحة من تصريح رئيس الجمهورية، دعّمها الأخير بالتأكيد على أنّ الجلسات كانت منقوصة ولم تأخذ بعين الاعتبار ضرورة استدعاء من مارسوا التعذيب، واقتصرت على الاستماع لطرف دون آخر، إضافة إلى تلميحه في ختام هذا المحور إلى انّه يحمل الكثير من المؤاخذات الخاصّة بالهيئة وعمل لجانها. موقف ناقض محاولات رئيسة الهيئة في المؤتمر الصحفي الذّي سبق خطاب الرئيس بساعات، مغازلة الرئاسة ونفيها أن تكون الرئاسة قد قاطعت عمل الهيئة أو اتخّذت موقفا معاديا منها.

قضيّة لطفي نقض تنغّص حالة الصفاء الشيخين

الحكم بعدم سماع الدعوى بالنسبة إلى المتهمين في مقتل لطفي نقض، المنسق المحلي لحزب نداء تونس بولاية تطاوين في 14 نوفمبر الجاري، أثار موجة من التململ والرفض في أوساط الحزب. غضب انعكس على خطاب رئيس الجمهورية الذّي انتقد الحكم مصرّا على أنّه قدّم للقضاء كلّ الدلائل التي تدين قتلة لطفي نقض، بل وعمل شخصيا على متابعة القضيّة منذ سنة 2012. الباجي قائد السبسي الممتعض من الحكم القضائيّ، تخلّى عن مناوراته الكلامية ليعيد خلال الحوار التأكيد على أنّ الترويكا وخصوصا حزبي النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية هما من يقفان وراء الهجوم على المقّر الجهوي لاتحاد الفلاّحين في تطاوين وهما من خطّطا مسبقا لقتل رئيسه. توجيه الاتهام مباشرة إلى شريكه الأقوى في التحالف الحاكم، ينبأ على ما يبدو بمرحلة جديدة من العلاقات الثنائيّة بين الحزبين الأكبر في البلاد، فبعد التحالف الذّي بلغ أوجّه في توصيف راشد الغنوشي لتونس بحمامة جناحاها النهضة والنداء، يرسل رئيس الجمهورية في كلماته تحذيرا لما أسماه “العدوّ في ثوب الصديق” من الاستمرار في لعبة ازدواجية المواقف والمساندة السلبيّة.

ظلال قرطاج على القصبة

قبيل يومين من اجتماع الهيئة الإدارية للاتحاد العام التونسي للشغل، لاتخاذ قرار قد يصل إلى اعلان الإضراب العام ردّا على تمسّك الحكومة بتمرير مشروع قانون المالية لسنة 2017، خرج الباجي قائد السبسي ليدلي بدلوه في أداء الحكومة التي انبثقت عن مبادرته في شهر جويلية من السنة الجارية. خلال تناوله هذا المحور، عبّر رئيس الجمهورية عن مساندته التّامة لإجراءات حكومة يوسف الشاهد، التي تعمل جاهدة حسب رايه لانتشال البلاد من الوضع الاقتصادي المتردّي منذ أكثر من خمس سنوات. السبسي بدا متناغما مع خطاب رئيس الحكومة بخصوص تجميد الأجور، حيث اعتبر هذا الإجراء “شرّا” لا بدّ منه لإنقاذ الموازنات العمومية خلال السنة المقبلة. أمّا بخصوص الخلاف مع الاتحاد العام التونسي للشغل، فذكّر رئيس الجمهورية بأنّ منظّمة الشغيلة تعهّدت بمساندة الحكومة الجديدة، وانّها لعبت دورا رئيسيا في مجيء حكومة التوافق الوطني، مشدّدا انّه من مصلحة الاتحاد أن لا يستمرّ الخلاف وان يتمّ التوصّل إلى تسوية قبل الأجل الدستوري للمصادقة على ميزانية الدولة لسنة 2017 في 10 ديسمبر المقبل. وقد ذكّر هذا الأخير، أنّ ظروف الامضاء على اتفاق الزيادة في الأجور تختلف ونظيرتها الراهنة، حيث لا يمكن للدولة أن تتحّمل أعباء هذه الزيادات. مضيفا أنّه تدخّل سابقا لإنهاء النزاع بين حكومة الحبيب الصيد والاتحاد العام التونسي للشغل، وأنّه من غير المستبعد ان يتدخّل مرّة أخرى للوصول إلى حلّ بين الطرفين.

أمّا بخصوص تدخّل صندوق النقد الدوليّ في رسم السياسة الاقتصاديّة للبلاد، فقد اعتبر رئيس الجمهورية أنّ الخيارات معدومة أمام المسؤولين، ممّا أجبر الجميع على اللجوء لهيئات النقد الدولية والاعتماد على قروضها المشروطة. امّا المفاجأة التي ختم بها السبسي حديثه في هذا المحور، فكانت انكاره علمه بشروط صندوق النقد الدولي بخصوص إعادة هيكلة قطاع الوظيفة العمومية والحدّ من كتلة الأجور. المؤتمر الدولي للإستثمار لم يغب عن مداخلة رئيس الجمهوريّة، ليس بالدعوة فحسب إلى توفير امتيازات أكبر للمستثمرين، بل بوقف ما اعتبره تشهيرا بالمخالفين أو من يثبت تورّطهم في عمليات فساد اقتصادّي أو انتهاك لحقوق العملة ، معتبرا أنّ “التشهير” بهؤلاء يضرّ مساعي الحكومة لدفع نسق الاستثمار الخاصّ في البلاد.

السياسة الخارجيّة: المصالح أوّلا

التغيير الذّي عرفته الإدارة الأمريكيّة عقب الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ووصول الجمهوريين إلى البيت الأبيض، كان منطلق الحديث في محور السياسة الخارجية التونسيّة. في هذا السياق لم يخفي رئيس الجمهورية ضبابية الرؤية بخصوص الرئيس الأمريكيّ الجديد، خصوصا وانّ هذا الأخير لم تربطه علاقات مباشرة مع أيّ من المسؤولين التونسيّين، ليستطرد أنّ حجم المصالح الأمريكيّة التونسيّة المشتركة يجعلها بمنأى عن التغيير السياسي في داخل الولايات المتحّدة. هنا اثار المحاوران مسلة التعاون العسكري والأمني بين البلدين وحقيقة التواجد العسكري والاستخباراتي الأمريكي في تونس. ليؤكّد رئيس الجمهورية أنّه وافق بشكل شخصي على تسيير الطائرات الامريكية دون طيّار انطلاقا من قواعد تونسيّة، خدمة لمصلحة تونس كما يراها. كما كشف عن وجود قرابة 70 عسكريا أمريكيا على الأراضي التونسية لغايات تدريبيّة.

أمّا بخصوص القاعدة العسكريّة الأمريكيّة في تونس، فقد نفى تماما أيّ تواجد من هذا القبيل، معتبرا أنّ القطع البحرية الأمريكية توفّرا بديلا أفضل للأمريكيّين، خصوصا حاملات الطائرات. بل وذهب رئيس الجمهورية إلى مهاجمة منتقدي التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، حيث تنبني مواقفهم على أسس إيديولوجيّة بعيدة عن المصالح الآنية لتونس والسياق الدولي للحرب على الإرهاب.
الباجي قائد السبسي، الذّي كان حاسما في مسألة القواعد البريّة وقدرة الأمريكيّين على الاستغناء عنها، تناسى أنّ الأساطيل البحرية الأمريكيّة المنتشرة في المحيطات الخمس لم تغنها عن القواعد البريّة في ألمانيا وكوبا والسعوديّة وكوريا الجنوبية واليابان وتركيا وغيرها. وأنّ التواجد العسكري المكثّف للأمريكيّين في بؤر التوتّر بالخصوص يعتبر عامل جذب للإرهاب لا وقاية منه، وله في لبنان واليمن والسعودية خير مثال.

العلاقات مع المملكة العربية السعوديّة، كانت أكثر المواضيع احراجا للرئيس، وهو ما دفعه للهروب من الأسئلة الصريحة حول طبيعة التحالف السنّي الذّي انخرطت فيه تونس وإقالة وزير الشؤون الدينيّة ودعم المملكة لتنظيمات إرهابية وتبنّي الرؤية السعوديّة للصراعات في عدد من الدول العربيّة بإجابات مبهمة ومقتضبة عن المصالح المشتركة وقدم العلاقات بين البلدين.

الفطنة “تحضر وتغيب”

الصراع داخل حزب نداء تونس حول الأحقيّة بتركة المؤسّس، لم تنتهي بانقسام الحزب وخروج جزء من منخرطيه وقياداته لتأسيس حزب مشروع تونس برئاسة محسن مرزوق. إذ استمرّ التململ إزاء ما يشبه عملية توريث إجبارية لحافظ قائد السبسي. لجنة الإنقاذ التّي انبثقت عن مبادرة رئاسيّة لانهاء الخلافات داخل الحزب، ألقت بعجزها إلى رئيس الجمهورية مطالبة إياه بالتدخّل مرّة أخرى لوضع حدّ للمتنازعين وضبط النظام داخله. لكنّ الرئيس المكبّل ظاهريّا بالدستور الذّي يمنعه عن التدخّل في شؤون حزبه، اختار هذه المرّة ان يراهن على الانتظار وترقّب نتيجة الصراعات المحتدمة داخل الحزب بعد انّ عدّل مسبقا في مبادرة لجنة الإنقاذ التوازنات الكفيلة بحماية اختياراته ومعسكر ابنه.

محور نداء تونس، كان خاتمة حوار دام أكثر من سبعين دقيقة، بدت في ظاهرها سبرا لمواقف الرئيس من مجمل القضايا الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، لكنّها من ناحية أخرى مثّلت مناورة سياسيّة أدارها الباجي قائد السبسي في اكثر من سابقة لفرض صوت قرطاج وإرادته على الحكومة أو لحمايتها.