essebsi-chiboub-ben-sedrine

أعلنت هيئة الحقيقة والكرامة، في مناسبتين متتاليتين، عن تأجيل إصدار القرار التحكيمي في ملف سليم شيبوب. فبعد أن أصدرت بلاغا في 5 أوت 2016، مُرجعة فيه أسباب التأجيل إلى طلبٍ من طرفي النزاع، عادت مجدّدا لتصدر بلاغا بتاريخ 4 نوفمبر 2016، مبيّنة فيه أسباب التأجيل إلى طلب “المنسوب إليه الانتهاك” [سليم شيبوب] وإلى عدم استيفاء “الاختبارات المأذون بها”.

تأجيل إصدار القرار التحكيمي -الذي كان من المفترض أن يتم بتاريخ 5 أوت 2016- يطرح الكثير من التساؤلات حول المسار الذي اتخذه ملف سليم شيبوب. ففي الوقت الذي تلجأ فيه هيئة الحقيقة والكرامة إلى التعديل الدوري لدليل إجراءات التحكيم والمصالحة لتمديد الآجال القانونية، يلوح أيضا المكلف العام بنزاعات الدولة عنصرا مُعرقلا، إما بعدم حضور الجلسات أوبتعطيل بعض الإجراءات.

بين استراتيجيا التمديد التي تتبعها الهيئة وبين الدور المعطّل الذي يلعبه المكلف العام بنزاعات الدولة، يظل مصير أحد أهم ملفات الفساد مُعلّقا، تتقاذفه لعبة المناورة والحسابات السياسية، وهو ما يفتح على تساؤل أكبر: أي مصير لمسار العدالة الانتقالية في تونس، خصوصا في ملفات الفساد المالي والاقتصادي؟

الهيئة واستراتيجيا التمديد

لتجاوز أزمة انتهاء الآجال القانونية، لجأت هيئة الحقيقة والكرامة إلى تنقيح الفصل 22 من دليل إجراءات التحكيم والمصالحة مرتين متتاليتين. كانت الأولى قبل 5 أوت 2016 (تاريخ انتهاء أجل الـ3 أشهر)، وذلك بإضافة جملة إلى الفقرة الثانية من الفصل 22، تشير إلى أنه بإمكان تمديد أجل إصدار قرار التحكيم والمصالحة بـ3 أشهر إضافية. ومن المفترض أن الأجل الجديد انتهى يوم 5 نوفمبر 2016 المنقضي، إلا أن القرار التحكيمي لم يصدر في ذلك التاريخ، لتلجأ الهيئة مجددا إلى تنقيح الفصل 22 من دليل الإجراءات بإضافة فقرة كاملة، ورد فيها “يمكن التمديد في أجل إصدار القرار التحكيمي مدة ثلاثة أشهر أخرى في الملفات التي يتم فيها تكليف خبير من طرف هيئة الحقيقة والكرامة عملا بأحكام الفصل 24 من هذا الدليل”، ليصبح مع هذا التعديل الجديد آخر أجل لإصدار قرار التحكيم يوم 5 فيفري 2017.

أسباب التأخير سبق وأن أرجعتها رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، سهام بن سدرين، إلى أن “المكلف العام بنزاعات الدولة لجأ إلى تأخير الجلسات الصلحية في ثلاث مناسبات، الأمر الذي أدى إلى تجاوز الآجال القانونية”، وأضافت بن سدرين أن “المكلف العام بنزاعات الدولة رفض مد الجهات القضائية برقم الحساب البنكي لتحويل مبلغ مالي أراد سليم شيبوب وضعه في خزينة الدولة بعد رفع قرار التجميد من طرف بنوك سويسرية”. وفي هذا السياق علم موقع نواة أنه بطلب ثاني من قاضي التحقيق المتعهد بالملف استجاب مؤخرا المكلف العام بنزاعات الدولة لمطلب الحساب البنكي.

من جهته أكد خالد الكريشي، رئيس لجنة التحكيم والمصالحة، لموقع نواة تعثر ملف سليم شيبوب بسبب التفاعل السلبي للمكلف العام بنزاعات الدولة، مبيّنا أن التمديد الثاني في آجال إصدار القرار التحكيمي كان بسبب عدم جهوزية تقارير الخبراء المكلفين من طرف الهيئة. وتتمثل مهمة الخبراء في التثبت في تفاصيل القضايا موضوع التحكيم ومقارنتها باعترافات المنسوب إليه الانتهاك.

الصراع السياسي حول ملف المصالحة الاقتصادية

برز الصراع بين الهيئة والمكلف العام بنزاعات الدولة إلى العلن عندما أصدرت وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية بيانا بتاريخ 30 سبتمبر 2016 أشارت فيه إلى أن  المكلف العام بنزاعات الدولة مليكة الناصري التلمساني “تعرضت للإساءة وسوء المعاملة من قبل رئيس هيئة التحكيم والمصالحة الذي لم يحترم مبدأ المواجهة كعنصر أساسي في تسيير الجلسات”. وقد تم سحب هذا البيان بعد سويعات قليلة من إصداره، لتنفي الهيئة في بيان مضاد وجود خلافات حول عدم احترام مبدأ المواجهة.

تعيين مليكة الناصري بصفة مؤقتة خلفا لكمال الهذيلي -الذي أشارت رئاسة الحكومة في 1 جوان 2016 إلى أنه تم إعفاءه بطلب منه– مثلت نقطة تحول في علاقة هيئة الحقيقة والكرامة بمؤسسة المكلف العام بنزاعات الدولة، فبعد أن كانت هذه المؤسسة محل ثناء من قبل رئيسة الهيئة ورئيس لجنة التحكيم والمصالحة لأنها قبلت بمبدأ التحكيم والمصالحة في ملف سليم شيبوب، تحولت مع قدوم مليكة التلمساني إلى عنصر معطل و”غير إيجابي” على حد تعبير خالد الكريشي.

هذا التحوّل لا يمكن فهمه خارج السياق السياسي، الذي يتسم بالصراع حول أهلية البت في ملف الجرائم الاقتصادية والمالية، بين هيئة الحقيقة والكرامة ومؤسسات الحكم، أساسا مؤسسة الرئاسة التي بادرت صيف 2015 بمشروع قانون للمصالحة الاقتصادية، كان من ضمن أهدافه سحب صلاحية البت في ملفات الفساد المالي والاقتصادي من هيئة الحقيقة والكرامة وإسنادها إلى لجنة تحت إشراف رئاسة الحكومة. وفي الفترة التي تأجّج فيها الصراع بين مؤسّسات الحكم (القصبة وقرطاج)، أي التي سبقت استقالة حكومة الصيد بأيام قليلة، تمكّنت هيئة الحقيقة والكرامة في 5 ماي 2016 من إبرام اتفاقية تحكيم ومصالحة بين سليم شيبوب والدولة التونسية. وقد سعت الهيئة آنذاك إلى استثمار الحدث دعائيا، والترويج لقدرتها على حل ملفات الفساد المالي والاقتصادي من داخل منظومة العدالة الانتقالية.

بعد رحيل حكومة الحبيب الصيد وتنصيب حكومة يوسف الشاهد، عاد ملف المصالحة الاقتصادية ليُطرح في دوائر رسمية ضيقة، دون وضوح كبير في الاتجاهات. ولكن بعد التخلي عن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية تحت قبة البرلمان، يلوح أن الاستراتيجيا الحكومية الجديدة تتجه نحو مبدأ التعطيل، من خلال المحافظة على مكلف عام بنزاعات دولة مؤقت، دون القيام بتسمية جديدة. وهذا الخيار يتطابق مع توجهات مؤسسة الرئاسة، التي تهدف إلى سحب البساط من تحت الهيئة وترحيل ملف الفساد المالي والاقتصادي إلى مؤسسات الحكم تحت عناوين مختلفة من بينها “تدهور الأوضاع الاقتصادية” و”تعطل عجلة الاستثمار”.

بالمقابل تسعى هيئة الحقيقة والكرامة إلى إثبات قدرتها على حل هذه الملفات، من خلال “التكيف القانوني” مع الصعوبات الإدارية والإجرائية. ولكن الانجرار وراء هذا المنطق قد يقود إلى نفق مسدود، لأنه محكوم بنزعة التزاحم المؤسساتي حول المسك بملف المصالحة الاقتصادية، ممّا يجعل الباب مفتوحا للمناورة وتقديم التنازلات. إذ كان بإمكان الهيئة الضغط في اتجاه إصدار قرار تحكيمي في ملف سليم شيبوب، في ظل التلكؤ الذي مارسته مؤسسة المكلف العام بنزاعات الدولة، وهو أمر متاح حسب الفصل 26 من دليل الإجراءات، الذي ورد فيه “إذا لم يتفق الأطراف على حل ودي تصدر لجنة التحكيم والمصالحة قرارا تحكيميا تفصل فيه جميع النقاط المتنازع عليها”.

الصراع بين الهيئة والمكلف العام بنزاعات الدولة -الذي يأخذ غلافا مؤسساتيا رغم جوهره السياسي- استفاد منه بالأساس سليم شيبوب، الذي يسعى إلى إقامة الحجة على عدم تورطه في جرائم اقتصادية ومالية. ولعل تأخير الإعلان عن قرار التحكيم والمصالحة في الانتهاكات المنسوبة إليه يخدم هذا الهدف. وبشكل أعم يمهّد الأرضية لتأجيل المحاسبة في ملفات الفساد المالي والاقتصادي.