abdeljalil-ben-salem-demission
“المس من مبادئ وثوابت الديبلوماسية التونسية”، شكّلت أبرز الحجج التي استند إليها قرار إقالة عبد الجليل بن سالم وزير الشؤون الدينية، الصادر عن رئاسة الحكومة صباح اليوم الجمعة 04 نوفمبر 2016. جاء هذا القرار بعد أقل من 24 ساعة من تصريحات وزير الشؤون الدينية التي أشار فيها إلى أنه صَارح كل من السفير السعودي وأمين عام وزراء الخارجية والداخلية العرب (سعودي أيضا) قائلا: “أصلحوا مدرستكم [الوهابية] فالإرهاب تاريخيا متخرج منكم…والتكفير لم يصدر إلا من المدرسة الحنبلية الوهابية”.

تطرّف القرار الحكومي الذي اتخذ منحى الإقالة يعكس حجم الضغوطات التي مارستها المملكة العربية السعودية على تونس، أساسا عبر وزير خارجيتها عادل الجبير، الذي يتمتع بحظوة كبيرة لدى مؤسسات الحكم في تونس ولدى الكثير من عواصم العالم، خصوصا في أوروبا وأمريكا. ولعل قرار الإقالة يعد الثالث من نوعه في الـ6 سنوات الأخيرة، إذ سبق وأن تمت إقالة كل من فرحات الراجحي وزير الداخلية في حكومة الباجي قايد السبسي سنة 2011، تلتها إقالة محمد صالح بن عيسى، وزير العدل في حكومة الحبيب الصيد سنة 2015.

الاستتباع الدبلوماسي

إزاحة عبد الجليل بن سالم يكشف في الكثير من جوانبه عن حالة الاستتباع التي تعيشها الدبلوماسية التونسية في علاقتها بنظيرتها السعودية، على مستويات عدة منها أساسا الاقتصادي والسياسي. وقد تطلب هذا التموقع من حكام تونس الجدد المحسوبين على “المشروع العلماني” أن يرخوا حبالهم الفكرية ملاطفة لحنبلية الملك سلمان وأعضاده. وقد برز التذيل التونسي في محطات سابقة أبرزها حادثة إعدام  رجل الدين الشيعي المعارض للنظام السعودي نمر النمر، أول جانفي 2016، التي أيدتها وزارة الخارجية التونسية في بيان عبرت فيه عن تضامنها مع السعودية ضد أحداث الشغب التي شهدتها سفارة المملكة بطهران. ثم تلاها الموقف من تصنيف حزب الله اللبناني “منظمة إرهابية” الذي دفعت نحو السعودية بشدة في مجلس وزراء الداخلية العرب الملتئم في تونس في 02 و03 مارس 2016، وقد صادقت تونس على هذا القرار بإملاء سعودي لتتراجع تحت الضغط الشعبي والمدني الواسع.

داخل هذا السياق يندرج قرار إقالة وزير الشؤون الدينية، الذي أغضب المسؤولين السعوديين باتخاذه موقف فكري من المدرسة الوهابية، التي تعتمد المنهج التكفيري في تصنيفها لبقية المذاهب الإسلامية وجمهور المسلمين بشكل عام. وهذا الموقف يعد موضوع جدل داخل الجامعات السعودية نفسها، وفي تونس ألّفت العديد من الكتب التي تنتقد الوهابية وتحتفي بالرسالة التاريخية التي رد فيها مشائخ الزيتونة أواخر القرن 18 على محمد بن عبد الوهاب، بعد أن رفضوا رسالته الشهيرة التي أمرهم فيها بالولاء لمذهبه واتباع أفكاره. وقد كتب هذه الرسالة الشيخ الزيتوني عمر المحجوب بأمر من حمودة باشا.

الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة لفحته رياح الوهابية السعودية حين كفّره عبد العزيز بن باز، رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة الذي تم تعيينه لاحقا مفتي عام بالمملكة العربية السعودية. وقد توجه هذا الأخير برسالة رسمية إلى بورقيبة طالبا منه التوبة والعودة إلى الإسلام”، وذلك بسبب خطاب ألقاه الرئيس التونسي في 18 مارس 1974 بمناسبة المؤتمر الدولي للمدرسين في تونس تحت عنوان”الثقافة الذاتية والوعي القومي”، شكك فيه في مصداقية الأساطير التي تسيطر على مخيال الناس. وقد رفض بورقيبة آنذاك الإجابة على رسالة الشيخ السعودي، واكتفى بشرح ما أراد مقصوده للمملكة عن طريق أحد أعوانه.

موقف وزير الشؤون الدينية لا يشكل استثناءا في البيئة الثقافية والسياسية التونسية، ولكن يحسب للرجل أنه ذهب بتصوراته إلى نتائجها الحتمية، عندما ربط الفكر الوهابي بنشر الإرهاب عبر العالم. وهو ما أغضب فعلا “الأشقاء” السعوديين، الذين يحشدون مليارات الدولارات لتلميع صورتهم، وجر العواصم العربية –من ضمنها تونس- وراءهم في معارك سياسية -طائفية تحت يافطة مكافحة الإرهاب.

العلاقات الاقتصادية السعودية التونسية: أكرم الفم تستحي العين

عائدات النفط التّي صنعت للملكة العربية السعودية وزنها السياسي وحضورها الدولي الراهن، استطاعت بدورها ترويض بعض الأنظمة العربية التي وجدت نفسها تهرب إلى الحضن السعودي السخيّ لتمكينها من جرعات مالية واقتصادية لتسكين الغضب الشعبي الداخلي الناجم عن الارتدادات السلبية للخيارات الاقتصادية لتلك الأنظمة. السخاء السعودي، لم يكتف بجرّ الدول إلى تحالفات هشّة تقفز على جميع التناقضات، بل وصلت إلى حدّ التدخل في القرار السياسي الداخليّ والسيادة الوطنية.

تونس، على غرار مصر المغضوب عليها في الوقت الراهن من السعوديّين، كانت من الدول التي ارتهنت قرارها وديبلوماسيتها للإرادة السعوديّة بعد أن تعاظم التأثير الاقتصادي السعودي على السوق التونسية خلال السنوات الخمس الماضية. حيث شهدت الاستثمارات السعوديّة المباشرة نموا سريعا منذ سنة 2011، لتتحوّل هذه الأخيرة إلى ثالث أكبر مستثمر عربي في تونس بأكثر من 1630 مليون دينار في مختلف القطاعات على غرار القلاحة والصناعة والخدمات، إضافة إلى البورصة عن طريق مجموعة بيت الإيجار السعودي التونسي.

النفوذ السعوديّ المالي في تونس لم يقتصر على الاستثمار المباشر، أو المبادلات التجارية، بل تجلّى بشكل أكبر من خلال القروض الممنوحة لتونس والتّي اتخذت نسقا تصاعديا منذ سنة 2011، حيث أمضت تونس مع البنك الاسلاميّ للتنمية والصندوق الإسلامي للتنمية خلال السنوات الخمس الماضية على عدد من القروض التّي جاوزت قيمتها ملياري دينار بنسب فوائد تتراوح بين 2% و2.5%.

الطفرة التي شهدتها الساحة المحلية للاستثمار في الاعلام الخاّص، حوّلت القطاع بدوره إلى قبلة للمال السعوديّ، فبالإضافة إلى الشبهات التي تحوم حول ضخّ أموال لعدد من القنوات الإذاعية والتلفزيّة الخاصّة، اقتنى السعوديّون النصيب الأكبر من أسهم قناة حنّبعل المملوكة سابقا لرجل الأعمال التونسي العربي نصرة. وقد تمّت الصفقة سنة 2013 عبر الصندوق الاستثماري “غاية” الذّي يرأسه رجل الأعمال السعودي ذو الأصول الفلسطينيّة طارق قدادة. (تأسس هذا الصندوق الاستثماري في شهر أفريل من نفس السنة بالشراكة مع البريطاني من أصول أيرلندية كينيث كينسيلا متخّذة من العاصمة الإيرلنديّة دبلن مقرّا لها لتعقد بعد أشهر قليلة صفقة شراء قناة حنّبعل).

المملكة العربية السعوديّة، وظّفت تزايد ثقلها الاقتصاديّ والمالي في تونس لترويض المواقف التونسية الخارجيّة، مستغلّة بالأخصّ سلاح القروض والهبات تزامنا مع تفاقم الأزمة الاقتصادية المحليّة وانتهاج الحكومات المتعاقبة سياسة التسوّل لتخفيف الاحتقان الاجتماعي وتسكين الأزمات. وقد سخّرت تونس ديبلوماسيتها في أكثر من مناسبة لخدمة معارك النفوذ السعوديّة في المنطقة وهاجس التوغّل الإيراني الذّي يسكن عقول حكّامها، وانساقت جرّاء إغراء البترو دولار والانتهازية السياسية وغياب الرؤية الاستراتيجية الواضحة في لعبة الاصطفاف الطائفي الذّي لا تتقن الجوقة الحاكمة من آل سعود سواها ولا تملك غيرها جدارا تحمي وراءه سلطتها على شبه الجزيرة العربيّة.