المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

بقلم وسام الصغير

ونحن نغادر مدينة جمنة بعد تنظيمنا قافلة تضامنية مع أهالي المنطقة الذين زعزعوا المقولات والنظريات المسلمة بالخيار الأوحد للمنوال الاقتصادي الرسمي التونسي المنضبط بدوره لمنوال مهيمن عابر للقارات والذي يهدف لتدمير كل تجربة أخرى رائدة قادرة أن تفتح طريقا جديدا لمنوال اقتصادي بديل وناجح يقطع مع التبعية والتذيل، وجدت نفسي في موقع ”المُتضَامَن معه“.

caravane-solidarite-jemna2

جمنة التي استرجعت واحتها (10800 نخلة) اُغتُصِبت من قبل المستعمر، ثم ليتداول عليها ”المركز“، لتُسجَل بعد ذلك ضمن ”الأراضي الدولية“ ووقع استغلالها عبرالكراء للمقربين ”للمخزن“ أو”للمركز“ بمعلوم زهيد (بين 9000 د و16000 د في السنة على أقصى تقدير)، وبمجرّد تحرر الطاقات إثر 14 جانفي 2011 خرج أهالي جمنة لاسترجاع أرضهم المسلوبة قسرا، وقد كان لهم ذلك .
عادت ”واحة ستيل“ لأهلها ووقع تأسيس ”جمعية حماية واحات جمنة“ لتسيير وتنظيم أشغال استغلال الواحة ولتعوّض الاستغلال الفاحش للمستكرشين والمقربين من دوائر القرار.

نجاح هذه التجربة لا يتمثل فقط في ارتفاع نسبة مرابيح منتوج هذه الواحة من 1,2 ألف دينار سنة 2012، تاريخ استغلال أول صابة بعد الاسترجاع إلى 1,7 ألف دينار اثر بتة يوم 9 أكتوبر 2016 جراء العناية وحسن الاستغلال ”التشاركي“، علما أن قيمة الكراء-الهبة قبل 14 جانفي 2011 لم تتجاوز 16 ألف دينار في السنة، ولكم تقييم الفرق في المردودية … إن نجاح هذه التجربة يبرز في الثقافة التشاركية والتضامنية التي أصبحت عقلية تميّز العلاقة بين أهالي جمنة، فبُنيت سوق التمور المغطاة واقتنيت سيارة الاسعاف المجهزة بأحدث التجهيزات وشيدت القاعة المغطاة ورمّمت المدارس والإعداديات وتوسّعت الطرقات والمسالك وشُيدت القنطرة  وخلقت مواطن شغل جديدة لما يزيد عن 140 ”جمني“ بين عملة عاديين وإطارات مختصة…خلاصة القول: عمّ الخير كافة المنطقة لتفنَّد الادعاءات القائلة بتنامي ثقافة الصراع بين ”العروش“ في هذه المدن، وليفتح طريقا جديدا قادرا على تعويض ضعف حضور الدولة في هذه المناطق (كي لا نقول غياب حضورها ونتّهم بالمغالاة).

يمكن القول أني ذهبت لجمنة لأتضامن معها فتضامنت معي، سمعت الكثير عن منوال الاقتصاد التشاركي أو التضامني، طالعت الكثير عن هذه التجارب ونجاحها في العديد من الأصقاع الأخرى، لكن في تونس لم يكتب النجاح لتجارب مماثلة لأنك لا تسمع عن هذه التجارب إلا وترافقها اعلانات من نوع ”الدولة تسترجع أراضيها التي وقع السطو عليها من قبل مواطنين باستعمال القوة العامة“ أو ”المكلف العام بنزاعات الدولة يرفع قضية استعجالية بأهالي منطقة كذا والقضاء يمنحهم مهلة بكذا لمغادرة الهنشير قبل الاذن للقوة العامة بتنفيذ قرار الإخلا“ أو خبر عند افتتاح نشرة أخبار القناة الوطنية (جدا) يبشر باسترجاع الدولة لهيبتها وذلك باسترجاعها لأراضي على ملكها وقع السطو عليها من قبل مواطنين اثر الانفلات الذي عقب 14 جانفي 2011 . عموما لم نسمع ولو خبر يتعلق بهذه المواضيع يُستلهم من معجم ”التشجيع“ أو ”التسهيل“ أو ”التأطير“. لذلك فشلت كل التجارب السابقة قبل أن تبهرنا تجربة جمنة.

اليوم جمنة قدمت لنا المثال وعلمتنا دروسا تطبيقية ما أحوجنا لها، ثم أكرمتنا بجود أهلها وكرمهم الفياض، هي دروس عميقة لا يمكن لك أن تجد لها أثرا لا في برامج التعليم قبل أو بعد الاصلاح التعليمي الذي وعد به الوزير ”الجهبذ“ ناجي جلول، لأن أهل جمنة تجاوزوا تنظير النخب والفاعلين السياسيين والخبراء لتجارب ومنوال الاقتصاد التشاركي وقدرته على النجاح، وهاهم اليوم بصدد جعله نمط عيش أجيال متعاقبة.

الزيارة تتلخص في كلمة وهي ”جمنة تتضامن معنا“، لأن ملف ما يسمى ”بالأراضي الدولية“ الذي استعصى على الأنظمة الرسمية التونسية لما يزيد عن 50 سنة، بعد فشلها في ايجاد المنوال الأمثل للحوكمة الرشيدة لهذه الثروات التي وقع اهمالها أو منحها في شكل عقود محاباة أو بِيعت بثمن رمزي للزمرة الحاكمة وحاشيتها من الأقارب والأصدقاء (كم هي قضايا الفساد الحاصلة في هذا المجال). وتَضامُن جمنة معنا يكمن في جعل تجربتهم الناجحة بمثابة الشرارة التي تمهّد لتجارب مماثلة في ما يزيد عن 220 ألف هكتار لما يسمى بالأراضي الدولية، خاصة بعد الإصرار والتضامن البطولي لأهالي جمنة وإلتفافهم حول جمعيتهم المنظمة لعملية تسيير الهنشير وإصرارهم على انجاح بتّتهم التي قرروها يوم أمس بالرغم من التهديد والوعيد الذي لقوه من حكومة المركز.

جمنة لم ترفض البحث عن حل توافقي مع الحكومة ولم تسترجع أرضها دون أن تبحث عن حل تسوية كما ذهب تفكير البعض عن حسن نية أو عن سوء نية، جمنة فوضت ممثلين لها للحوار مع ممثلين من الحكومة للبحث عن حل ولدفع أضعاف ما كان يمنحه المتمعشون من الكراء-الهبة لهذا الهنشير قبل 14 جانفي، لكن خلفيات الصد والرفض الحكومي أصبحت مفهومة. هذه الحكومة يُرهبها ويقلق مضجعها منوال اقتصادي جديد يحد من التبعية ويقلص من هامش الارتباط بالمركز، حكومة لا تشجع على الانتاج والعمل كما أفحمتنا شعاراتها وخطاباتها بل هي حكومة تشجع على التبعية والارتهان .