imed-derouiche-pertofac-corruption

مسار المواجهات بين الأهالي وشركة بتروفاك الذّي انطلق منذ بداية السنة الجارية، والتركيز الإعلامي الموجه الذّي قسّم الشارع إلى مؤيّد لمطالب مواطني قرقنة ومستنكر لها، تغافل عن تناول مسألة أخرى لا تقلّ أهمية حول الشبهات التي تحوم حول عقد استغلال غاز حقل الشرقي وتورّط المسؤولين في الشركة بصفقات وتفاهمات مع أفراد عائلة الرئيس السابق زين العابدين بن عليّ. قضيّة تنفض الغبار عن حجم الفساد الذّي ينخر قطاع الطاقة والثروات الطبيعية في تونس.

بتروفاك: فساد وتجاوزات للظفر بغاز ”الشرقي“

قضيّة بتروفاك والمواجهة مع أهالي جزيرة قرقنة، كانت محور الاهتمام الشعبي والإعلامي والرسمي طيلة الأسابيع الفارطة، بعد تتالي تهديدات الشركة البريطانية بإغلاق فرعها التونسي المستغلّ لحقل غاز الشرقي، في أزمة انفرجت على ما يبدو عقب صياغة مسودّة اتفاق أولي، تضمن جملة من البنود والقرارات المتعلقة بتسوية أوضاع عمال منظومة البيئة والوضع التنموي بالجزيرة بشكل عام.

التناول الإعلامي للقضيّة ككلّ، ركّز على مسار المواجهة وأوغل في سياسة الترهيب الاقتصادي مع اعلان بتروفاك نيّتها مغادرة تونس وإيقاف استغلالها لحقل الغاز. تهديد استعمل من قبل السياسيين وعدد من وسائل الاعلام للضغط على المحتجّين في قرقنة وتشكيل رأي عام معاد للحراك الاجتماعي ومطالب الأهالي. لكن ملابسات اسناد رخصة الاستغلال والفساد والتجاوزات التي شابت العملية منذ عشر سنوات وحجم الامتيازات التي نالتها الشركة، كانت تؤكّد أن التهديد الذي أطلقته بتروفاك لم يكن إلا مناورة أخيرة قبل التسوية.

انطلق نشاط شركة بتروفاك في تونس في شهر أوت من سنة 2006، بعد مصادقة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية -التابعة لوزارة الصناعة-على مذكّرة اتفاق تمّ بموجبها إحالة 45 بالمائة من الامتياز إلى هذه الأخيرة. ويعود هذا الامتياز في الأصل إلى ما يعرف ”برخصة بحث قرقنة الغربية“ الذّي تمّ المصادقة عليه في 18 جوان 1980 لصالح شركة OMV النمساوية التّي ظلّت تستغل هذه الرخصة إلى حدود سنة 2006. دخول بتروفاك على الخطّ، لم يكن وفق المسارات القانونية لصفقات الاستغلال. حيث تدخّلت المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية لتمارس حقّها في الشفعة بعد إعلامها من الشركة النمساوية بنيتها التفويت في حصّتها لصالح شركة آل ثاني الاماراتية بقيمة 27 مليون دولار. منذ تلك اللحظة، دخلت شركة بتروفاك على الخطّ لتفتك الصفقة من الاماراتيّين.

عملية الظفر بالامتياز، لم تخلو من المساومات والتجاوزات التي تمّ التكتم عليها طيلة السنوات الخمس التالية، حتّى كشفتها دائرة المحاسبات في تقريرها عدد 27 لسنة 2011. حيث أفاد التقرير أنّ الشركة التونسية للأنشطة البترولية صادقت على الاتفاق مع بتروفاك على الرغم من أن دراسة الجدوى التي تمّ عرضها على مجلس الإدارة في جويلية 2006 أثبتت أن الفرضية المتمثّلة في شراء حصة OMV وتطوير الحقل من قبل المؤسسة التّونسية للأنشطة البترولية يعد الأفضل من ناحية المردودية الاقتصادية. التجاوزات لم تتوّقف عند هذا الحدّ، حيث يكشف التقرير المذكور فيما بعد أنّ الشركة التونسية للأنشطة البترولية لم تقم بعرض مشروع التفويت إلى بتروفاك على الرأي المسبق للّجنة الاستشارية للمحروقات حيث لم تقدم مطلبا إلى اللّجنة المذكورة للحصول على التّرخيص في إحالة جزء من حقوقها والتزاماتها في امتياز الشرقي لفائدة شركة بتروفاك طبقا لمقتضيات الفصل 55 من مجلّة المحروقات إلاّ بتاريخ 14 نوفمبر 2006 وذلك على سبيل التسوية في حين أنّ عملية التفويت منذ 9 أوت 2006.

كما لم تتقيد المؤسسة التابعة لوزارة الصناعة بالتشريعات المتعلّقة بتخصيص وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية حيث تمّ تجاهل إنجاز تقييم مسبق للحصّة موضوع الإحالة فضلا عن إلزامية اللّجوء إلى المنافسة بهدف اختيار المشتري صاحب العرض الأفضل، وهو ما يعني ان بتروفاك تقدّمت لنيل الصفقة دون الاضطرار للمنافسة أو الاجتهاد لتحسين عرضها لدى السلطات التونسية.

صفقة خاسرة على حساب المصلحة العامّة

تفاصيل الصفقة التي كشف عنها تقرير دائرة المحاسبات، والتي نالت بموجبها الشركة البريطانية امتياز استغلال حقل الشرقي بقرقنة، لم يحقّق أية أرباح من هذه العملية المزدوجة حيث تولّت الشركة التونسية للأنشطة البترولية اقتناء 49 % من امتياز شرقي بقيمة جملية ناهزت 30 مليون دولار وقامت فيما بعد ببيع 45 % منه لشركة بتروفاك بمبلغ جملي قدره 27 مليون دولار، وهو ما يطرح الكثير من التساؤلات حول دوافع الشركة التونسية للتفريط في نسبة من اكتشاف ثابت للغاز (أي دون أن يتحمل المشتري مخاطر البحث باعتبار أن الحقل قد دخل طور الإنتاج منذ سنة 1980) وعدم مراجعة أسعار البيع والسعي لتحقيق عوائد من الصفقة لصالح الخزينة العمومية.

⬇︎ PDF

هذا ويذهب تقرير دائرة المحاسبات إلى انّ عقد الشراكة بين بتروفاك والطرف التونسي قد منح العديد من الامتيازات للمشتري على حساب الشركة الوطنية، وهو كبّد المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية تكاليف إضافية مقارنة بما كانت عليه التزاماتها وفقا للعقد المبرم مع شركة OMV. إضافة إلى التوسيع من صلاحيات شركة بتروفاك عند التّصرف في الامتياز على حساب صلاحيات الشريك (المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية). ويختم التقرير المذكور بالتأكيد على أنّ صيغة الاتفاق بين الطرفين تضمن عدم تمكّن المؤسسة التّونسية للأنشطة البترولية من المتابعة اللّصيقة والتّحكّم في التّكلفة الجملية لمختلف عناصر المشروع، على غرار عدم حصول المشغّل (بتروفاك) على المصادقة المسبقة للجنة العمليات فيما يتعلّق بالصفقات التي يتجاوز مبلغها 300 ألف دولار واللّجوء المكثّف لأذون التّزويد.

اختراق مؤسسات الدولة: الشركة التونسية للأنشطة البترولية نموذجا

بنود وملابسات الاتفاق الذّي تمّ بموجبه ”إهداء“ غاز حقل الشرقي بقرقنة لشركة بتروفاك منذ عشر سنوات، أجاب عنه تقرير اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق حول الرشوة والفساد لسنة 2011 والتي ترأسها الراحل عبد الفتاح بن عمر.

⬇︎ PDF

حيث يؤكّد التقرير المذكور أنّ اللجنة قد استطاعت الوصول إلى ملفّات تفيد بتورّط المدير العام لشركة بتروفاك عماد درويش في عمليات رشوة واختراق للمؤسسة التونسية للأنشطة البترولية، مستفيدا من علاقته بصهر الرئيس السابق زين العابدين بن علي، منصف الطرابلسي. والذّي وصفته اللجنة الوطنية لتقصّي الحقائق ”بالذراع الأيمن“ لصهر الرئيس. وتتلخّص تلك التجاوزات في حقّ المؤسسة العمومية ببيع أسرار مهنية تتعلق بالصفقات العمومية ومعطيات خاصّة بالأسعار المقدّمة من المنافسين.

توعّد رئيس الحكومة يوسف الشاهد خلال برنامج حواري يوم أمس، 28 سبتمبر الجاري بمحاسبة الفاسدين والزجّ بهم في السجون. وعيد لن يخرج كغيره من التصريحات الحكومية السابقة من إطار الوعود والدعاية الكلامية. فرغم تتالي الكشف عن ملفّات الفساد التي طالت جميع القطاعات دون استثناء، يبدو ”رؤوس“ الفساد أكثر اطمئنانا من ذي قبل نظرا لتداخل المصالح وتعاظم نفوذهم على الساحة السياسية، ولعل امتحان قرقنة كان برهانا آخر على تسخير الدولة وقوات أمنها لصالح هؤلاء.