“هذه السنة ستكون سنة الإصلاحات الكبرى”. هكذا وصف وزير التربية ناجي جلول ملامح السنة الدراسية 2017. فمنذ قدومه إلى وزارة التربية فيفري 2015 تقمّص ناجي جلّول معجما إصلاحيا، إذ لم يترك إطلالة إعلامية تمضي دون الترويج لمشاريع وإصلاحات مرتقبة أوقيد التنفيذ. وفي هذا السياق أطلق في 23 أفريل 2015 مبادرة “الحوار الوطني حول الإصلاح التربوي”، التي  انتهت بإصدار مُؤلّفين في موضوع الإصلاح، يتشابهان إلى حد كبير في المنهج والمضمون، هما: الكتاب الأبيض والمخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي 2016-2020.

إزاء الكلام الكثير الذي قاله الوزير، ومئات الصفحات التي كُتبت حول الموضوع، من الجائز التساؤل حول مضمون الخطاب الإصلاحي ومدى ارتباطه بواقع المدرسة التونسية، وهل أن تضخيم عدد المشاريع والمبادرات ينسجم مع إنجازات فعلية، أم مجرّد أدوات دعائية لخدمة صورة الوزير؟

المدرسة: مادة أولية لخدمة السوق

education-livre-blanc-cover


ماذا يقصد ناجي جلّول بمفهوم الإصلاح التربوي؟ يربط الوزير مضمون الإصلاح وأهدافه بـ”الإصلاحات الهيكلية العميقة في مختلف القطاعات وفي العديد من المجالات”، وعلى رأسها القطاع الاقتصادي، مثلما ورد في تقديمه للكتاب الأبيض. وينظر إلى الهدف الإصلاحي من داخل حاجيات السوق وليس وفق حاجيات المجتمع والدولة، إذ ورد في تقديمه للمخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي 2016-2020، “وحرصا على مزيد الملاءمة بين احتياجات سوق الشغل ومهارات الخرّيجين ستتكثف الجهود خلال فترة المخطط 2016-2020، لتحسين جودة المنظومة التربوية ونوعيتها، ومواصلة تنويع مسالكها، وتعزيز الحرفية لدى العاملين فيها. وإكساب المتكوّنين القدرة على التحليل والإبداع والمبادرة والتعلّم الذاتي والمستمر والتأقلم مع متطلبات سوق الشغل”.
%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%87%d8%af%d8%a7%d9%81-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b3%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%ac%d9%8a%d8%a9-%d8%aa%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-%d8%aa%d8%b9%d9%84%d9%8a%d9%85-02
تطويع الإصلاح التّربوي لبرامج الإصلاح الهيكلية، التي يجري تنفيذها تحت وصاية هيئات النقد الدولية، يعطي للعملية الإصلاحية أهدافا وغايات لا تتلاءم مع واقع المدرسة وحاجيات المجتمع. فالمخطّطات والمفاهيم التي تزدحم بها كتب الإصلاح الوزارية من قبيل “جودة المكتسبات” و”الحوكمة” و”الاندماج في الاقتصاد”، تعطي للمدرسة صورة مثالية، مفارقة للواقع، سرعان ما تتهافت أمام حقيقة الأشياء. وهكذا يتحول الإصلاح إلى عملية مفاهيمية، مجرّدة من أي أساس اجتماعي، وفاقدة لأدنى شروط التنفيذ. ولعل وزير التربية نفسه يدعم هذا الاستنتاج، إذ أشار في آخر تصريحاته  “أن 97 بالمائة من موارد وزارة التربية مخصصة للأجور، مقابل 3 بالمائة فقط للتجهيزات وبناء مدارس وأقسام إضافية”. فمن أين سيأتي بالإعتمادات المالية الكافية للارتقاء بالمدرسة التونسية إلى عالم التكنولوجيات والمعرفة الحديثة، مثلما يتردد في كتب الإصلاح؟.

97 بالمائة من موارد وزارة التربية مخصصة للأجور، مقابل 3 بالمائة فقط للتجهيزات وبناء مدارس وأقسام إضافية الناجي جلول، وزير التربية

ربط مصير المدرسة العمومية بأفق السوق جعلها تتراجع أمام بروز تعليم ابتدائي خاص في الحواضر الكبرى، يجذب إليه أبناء الطبقات الوسطى والمترفّهة. وقد أدى النسيج التعليمي الخاص، الذي يتمدد شيئا فشيئا، إلى خلق حالة من الاختلال الاجتماعي بين وسط مدرسي عمومي يسود فيه الشعور بانسداد الأفق ويجعل الطريق سالكة أمام الانقطاع المبكر عن الدراسة، وبين فضاء مدرسي خاص تتحدد داخله معايير النجاح المستقبلية، وترتبط فيه إلى حد كبير وظيفة المدرسة بحاجيات السوق. ووزارة التربية نفسها تشيد بأفضلية التعليم الخاص مقارنة بالمدرسة العمومية، إذ ورد في المخطط الاستراتيجي القطاعي التربوي 2016-2020 في القسم المخصص للتعليم الخاص “وترجع الدوافع المفسّرة لتطور التعليم الخاص بالمرحلة الابتدائية أساسا إلى ملاءمة الحياة المدرسية بهذه المؤسسات لظروف عيش العائلة في الوسط الحضري وإلى البحث عن تكوين جيد للأبناء والتمدرس المبكر وكذلك توفر آليات المتابعة والمرافقة”.

تغيير الزمن المدرسي: هل هو جوهر الإصلاح؟

تزامنا مع العودة المدرسية، كان الزمن المدرسي من الإجراءات التي ارتبطت بالدعاية للإصلاح التربوي. ونظرا للتغيير النوعي في طبيعة الزمن المدرسي، فقد كان الموضوع الأكثر جدلا لدى الرأي العام، إذ تم الاستغناء لأول مرة في تاريخ مدرسة ما بعد الاستغلال عن النظام الثلاثي، وتم إقرار العمل بالنظام السداسي، إضافة إلى التخلي عن عطلة الأسبوعين الشتوية والربيعية. هذا الإجراء كان إفرازا لعمل لجنة الزمن المدرسي المتكونة من ممثلين عن وزارة التربية والاتحاد العام التونسي للشغل والمعهد العربي لحقوق الإنسان، وقد طرح نقاشا حول مدى ملاءمته للزمن الاجتماعي. وفي هذا السياق أكد لسعد اليعقوبي، الكاتب العام لنقابة التعليم الثانوي، لنواة أن “اللجنة اختارت المصلحة العلمية على حساب المواءمة مع الزمن الاجتماعي”، مشيرا إلى أن هذا النظام جاري به العمل دوليا.

رغم الطابع الشكلي لهذا الإجراء داخل عملية الإصلاح المرتقبة، فإن الوزارة سعت إلى تضخيمه مستغلة في ذلك التوافق حوله مع بقية أعضاء لجنة الزمن المدرسي، خصوصا النقابة العامة للتعليم الثانوي. وإزاء هذه السياسة الدعائية، أوضح لسعد اليعقوبي أن “الإصلاح لم يبدأ بعد”، مبيّنا أن من شروطه تغيير البرامج والمناهج ومراجعة السياسات الإدارية والمالية، وهذه كلها محاور مازالت محل نقاش على حد تعبيره. وأضاف الكاتب العام لنقابة التعليم الثانوي أن “الوزارة عطلت عمل اللجان التي توصلت إلى برامج لا تتوافق مع طرحها، على غرار لجنة الحياة المدرسية، التي أنهت عملها ولم يفعّل تقريرها لأنها رفضت التوجه الوزاري الذي يهدف إلى إلغاء المدارس التقنية”.

رغم الخلافات الداخلية العميقة التي تشق لجان الإصلاح المشتركة فإن الوزارة تسعى إلى الإيهام بوجود التفاف مدني ونقابي حول ملف الإصلاح التربوي. وتخفي هذه الفكرة أيضا حقيقة ضعف مشاركة المجتمع المدني والسياسي في صياغة مشروع الإصلاح، علاوة على غياب مجلس نواب الشعب. ويلوح أن تشبّث الوزارة بتمرير تصور أحادي ينسجم مع خيارات الحكم الاقتصادية والاجتماعية ذات المنحى الليبرالي، قد يؤدي مستقبلا إلى صراعات بين النقابات وجزء من الطيف السياسي وبين الطرف الحكومي، لأن الإصلاح التربوي يعد ملفا استراتيجيا، وهو محدد في حسم الخيار المجتمعي، فإما أن يكون في خدمة حاجيات المجتمع على ضوء تكفل الدولة بدورها الاجتماعي، أو أن يكون مربوطا بأفق السوق ومفتوحا على مصالح الاستثمار الخاص.