AttessiaTV-benali

اعتمد لسان الدفاع على بن علي في العشرية الأولى من القرن الواحد و العشرين على حجة ”الوطنية“ و ”السيادة“. طالما قدم لنا ”مثقفون“ من طراز بوبكر الصغير و برهان بسيس و المازري الحداد و ”المعارض“ منذر ثابت، الرئيس السابق بن علي كرجل قد يحتمل عيوب العالم لكنه وطني يحب وطنه و يجتهد من أجله و يحارب من أجل سيادته، وسط خليط من المعارضين يرتهنون للأجانب و يستلمون أموالهم من السفارات. و كان التفسير السيادي هو الغالب كلما احتمد الأمر على الرئيس السابق في الإعلام الخارجي.

لم يكن هؤلاء وحدهم المكررين لهاته الرواية، هم كانوا فقط واجهات رسمية عالية الشأن نسبيا مقارنة بالجحافل الأخرى من المثقفين و الصحفيين و الإعلاميين و السياسيين المكررين لهاته المقولة. سواء معارضين رسميين أو مساندين، ظلت هاته العبارة تتكرر من فاه لفاه، لتطفو على السطح كلما احتدم الصراع ما بين فرقاء سياسيين، أو كلما تطلع أحدهم لسب الآخر قائلا : ”بن علي على الأقل وطني، ليس مثلك أيها العميل“.

لم تتوفر لهاته الوطنية دليل سوى ما تكرره أبواق المثقفين رسميا هنا و هناك.

ثم أتت ”الثورة“ ليتسابق الجميع نحو ذم الرئيس السابق، إلا من رحم ربك ممن تعلقت المدائح بذممهم، فواصل المازري حداد سرديته دون انقطاع ملونا أعداء الوطن سالبيه بن علي كل مرة بلون إسرائيل أو أمريكيا ثم قطر. بينما خرج العديد غاسلين أيديهم من ذنوبهم، ليصل بعضهم حد الإعتذار الرسمي المهين و التعهد بعدم الظهور مجددا، و إن لزم الأمر إطلاق الرصاص عليه.

ما حصل في السنوات اللتي تلت حدث ”الثورة“ أعاد بن علي كحجة للسباب بين مختلف الفرقاء، و عادت ”وطنيته“ كحجة متكررة، ثم كعبارة تذمر متواترة لدى الجميع. إلى أن صرنا في 2016 نرى من يذكّر بوطنية بن علي و سياديته مقارنة بالآخرين (من هم؟؟؟ الله أعلم. هم فقط الآخرون). لم يعد الأمر قصرا على برهان بسيس اللذي أبدع في تدخل مع نوفل الورتاني متلاعبا بالكلام، مبرزا كيف أنه هو الأذكى بين الجميع و الأنزه بوضوح نظرا لاختياره الإصطفاف وراء بن علي الوطني السيادي، رغم ما يبدو من تصلبه. بل صار العديد يذكّرون بوطنية و سيادية بن علي متحسرين على أندلس ما كان بيننا هنا. فهذا جمال كرماوي يذكر أن بن علي ترك كوندوليزا رايس تنتظره نصف ساعة لأنها حلت متأخرة نصف ساعة، مما يجعله مناظرا لصدام حسين و شافيز في مخياله الشعبوي، و هاته قناة كاملة تشتغل على مزحة التواصل مع بن علي، لتنفجر تعبيرات السياسيين و الإعلاميين الموقع بهم. كما لم يفت سليم شيبوب، في نفس القناة، التعبير بحسرة و ألم و حزن و صدق عن وطنية ذاك السيد و حبه للوطن و لتونس و تعلقه بها. يشاهد الجميع في هذا ”طحينا“ و شماتة في هذا أو ذاك من ”مدعي البطولة“، بينما تمر وطنية و سيادية بن علي كمعلومة مسلمة، تبرر لمصفقيه السابقين/اللاحقين مواقفهم و تغسل عنهم بصاق الناس لسنوات.

هذا من ناحية الإدعاء و تكراره. فماذا عن الواقع السياسي، و الأفعال؟

كي نستشف سلامة الأمر من عدمه، فلنبدأ أولا بتحديد تعريف أولي للوطنية و السيادية. و كي لا نبحر في النظريات و التبريرات، يكفي أن ننطلق من التراب كمعيار للوطنية و السيادة. محمد الصادق باي لم يكن وطنيا لأنه سلّم في التراب التونسي للفرنسيين يتعهدونه و يأخذون القرارات الخاصة بالتونسيين في مكانهم. بورڨيبة اعتبره المخيال العام وطنيا لأنه أرجع التراب إلى ذمة التونسيين، و أجلى المستعمرين منه و عقّد على الأجانب أي ملكية للتراب في تونس.

حسب هذا المعيار الأولي البسيط، لم يكن بن علي وطنيا بحكم الفعل، لا بحكم العواطف و المهجة و شعر ما بعد القارورة العاشرة الفائض دموعا صادقة.

الدليل : ورد بتقرير اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة و الفساد الصادر سنة 2011 (وهو تقرير رسمي معتمد لدى مؤسسات الدولة و صادر عنها، كان موقف العديد من الثوريين و الراديكاليين سلبيا منه لاعتماده بعض الرفق و اللين و اعتبره البعض غير كاف، و كاتب هاته السطور منهم في الأساس) أن بن علي أسدى تعليماته سنة 2008 بالتفويت في عقار بمنطقة ڨمرت يمسح أكثر من 5 هكتارات لفائدة فهد ابن عبد العزيز، بالدينار الرمزي (دينار واحد). كما باع لأحد المسؤولين الأفارقة قطعة أرض بخزامة الشرقية بسوسة تبلغ مساحتها 1149 متر مربع بسعر دينار واحد فقط، و ذلك بعد ان كانت مكونة من قطعتين تم اشتراؤهما بدينار للقطعة الواحدة من وزارة أملاك الدولة لفائدة الوكالة العقارية للسكنى (أي أن الدولة اشترت قطعة الأرض من نفسها بدينارين ثم باعتها بدينار) سنة 2006. هذا دون العودة للأرض اللتي أهديت لأحد الأمراء الإماراتيين بالحمامات (بالدينار الرمزي كذلك).

رئيس الدولة السابق كان قد حرص شخصيا على الإسراع وبالإجراءات عبر تعليمات شفوية و كتابية. و هاته الملفات مودعة لدى النيابة العمومية منذ أكتوبر 2011، مرفقة بكافة الوثائق المثبتة. يمكن لمن يريد التثبت من هاته الوقائع في التقرير، صفحة 49 إلى 51.

تذكر بعض كتب التاريخ كيف أن مراد الثالث (بوبالة) كان يبكي جنب ضحاياه قبل الفتك بهم. رغم ذلك، لا نستطيع اعتباره ملكا رحيما باعتبار فعله. كذلك الأمر بالنسبة لبن علي. أن تنتظره كوندوليزا رايس نصف ساعة لا يجعل منه وطنيا. فعل محمد السادس أكثر من ذلك في فرنسا السنة الفارطة بمناسبة تعزية الفرنسيين إثر العمل الإرهابي بمسرح باتالكان. بل و غضب ملك السعودية يوما و رفض استقبال الأمريكيين لأسباب پروتوكولية تتعلق بشخصه. هذا لم يجعل منهم سياديين أو وطنيين، بل فقط تلامذة مدللون يطالبون بنصيب أكبر من الحلوى لأفواههم. سلّم بن علي أراضي من تراب بلاده دون مقابل، مكلفا الدولة خسائر مالية. و هذا فعل غير سيادي و يلامس خيانة الوطن، إن لم يكنه.

في الختام، إن عدم الواحد فينا الأمل في طلب الحياء، يبقى طلب إغلاق أجهزة التلفاز مطلبا معقولا.