لقد فتحت الطريق و ألغيت بيع العبيد، و لن اتخلى أبدا عن التحرير ما دام عبد في أرضي.

بهذه الكلمات ختم أحمد باي (1835-1855، عاشر الحكام الحسينين)، قراره الرائد بإلغاء الرق وتجارة العبيد سنة 1846. حيث كانت تونس أول دولة حررت العبيد رسميا في العالم العربي، وقبل الدولة العثمانية. ولكن إلغاء الرق لم يكن مفاجئا ولا قاطعا. ففي سنة 1881، مع بداية الحماية الفرنسية، كان العبيد يوظفّون كخدم منازل وعمال حقول، خاصة في الجنوب الريفي، أين قوبلت رغبة قيّاد المناطق الساحلية في تطبيق مرسوم الباي بتعنت المسؤولين المحليين. انتقل العبيد حينها من العبودية إلى نظام الولاء، وهي علاقة رعاية سمحت للعبيد السابقين بوراثة ألقاب أسيادهم، مضيفين عبيد أو شواشين إلى الإسم. هذه العلاقة الهجينة كانت ولاتزال تتجسد من خلال الحظر الصارم للتزاوج و التصاهر بين البيض و السود، علاقة بمثابة القاعدة في المناطق الريفية الجنوبية والداخلية من البلاد.لعلاقة

تصوير جاني تسيبولو

بسبب عمليات التوحيد والتحديث القسري للمجتمع التونسي التي اعتمدها الرئيسان السابقان بورقيبة وبن علي، تم إخماد صوت الأقليات ووضعت الاختلافات العرقية جانبا من أجل الحفاظ على صورة تونس كبلد يسوده السلام والاستقرار. ومع ذلك، استمر واقع مؤلم من العنصرية و الفصل الاجتماعي سرا، و مازال التونسيون السود هدفا للشتائم العنصرية والتهميش إلى يزمنا هذا.

في ولاية مدنين شبه الصحراوية القاحلة، لفتت قرية صغيرة تسمى القصبة انتباه وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة. قرية القصبة التي يقطنها سود عبيد غبنطن، تقع قُبال قرية أخرى يسكنها الغبنطن البيض و يفصل بينهما واد صغير. الفقر والتهميش الجغرافي حقيقة تفرض نفسها للعيان، إلا أن عبيد غبنطن يتدبرون قوتهم كصيادين، إذ يجمعون المحار من شواطئ البحر، و يعزفون الطايفة في الأعراس، و هي نمط موسيقي مميز، و علامة وجاهة إجتماعية للمقبلين على الزواج.

في قرية القصبة لا توجد شرطة ولا مدارس ثانوية ولا صيدليات. يوميا، يتوجه الخمسة آلاف عبيد غبنطن إلى القرية المقابلة، حيث تشكل اللقاءات مع نظرائهم البيض عالمهم وهويتهم. “لديهم كل شيء: أفضل تربة سقوية و أشجار زيتون“، تقول خلود متذمرة، وهي عبيد غبنطنية في عقدها الرابع. ”انهم لا يريدون منا أن نختلط بهم، واذا كنت تمشي في الشارع سترى السود مع السود و البيض مع البيض“، يضيف سامي، حداد في عقده الثالث.

على الرغم من انكارهم، قد يكون عبيد غبنطن أحفاد رقيق الغبنطن الذين ورّثوهم اسم النسب من خلال الولاء. وأفضل مثال على العلاقة بينهم قاعدة زواج الأقارب الصارمة، التي، إذا ما انتهكت، تكون عقوبتها الاستبعاد الاجتماعي في حالة مصاهرة البيض. إذ لا يزال المجتمع التونسي يعتبر الزواج المختلط من المحرّمات، ولكن الأمور تتغير ببطء، حتى في قرية القصبة. الزواج بين عبيد غبنطن والفتيات البيضاوات من المناطق المجاورة، مثل مدنين وتطاوين، أصبح مقبولا تدريجيا وشائعا بشكل متزايد. ”بالطبع والداي لم يكونا سعيدين بزواجي من عبيد“ تقول فتاة من تطاوين، قبل أن تضيف ”لأنهم يدفعون مهرا أقل. لكننا كنا نحب بعضنا“.

ومع ذلك، فإن الزواج بين عبيد غبنطني وغبنطنية مازال يعتبر مشينا. الغبنطنية البيضاء الوحيدة التي فرت من عائلتها لتتزوج من عبيد غبنطني ارتكبت انتحارا اجتماعيا: و هي تعيش الآن بين عبيد غبنطن في قطيعة تامة مع ذويها. نظراً إلى التركيبة الأبوية للمجتمع، يعتبر الأطفال الذين يولدون من أب أسود سوداً، لذلك اعتبر أطفال الزواج المختلط آلياً من نسب عبيد غبنطن. يقول الأب : ”بما اننا نعيش على مقربة من البيض، أردنا أن يركب أطفالنا الحافلة إلى سيدي مخلوف من الجزء الذي يسكنه البيض. ولكن عائلات البيض لم يقبلوا أطفالنا“.

تصوير جاني تسيبولو

انطلقت الأحاديث حول الحافلات المنفصلة في المعهد الثانوي بسيدي مخلوف، الذي يدرس فيه التلاميذ السود والبيض. منذ سنوات، كانت حافلة تقلّ جميع اطفال القصبة على اختلافهم، ولكن بعد تكرر المناوشات بين التلاميذ، طلبت عائلات البيض من الإدارة العامة توفير حافلة أخرى خاصة بنثل الأطفال البيض. هيمنت القصة على الخطاب العام، وقدمت في وسائل الإعلام على أنها حالة من الفصل العنصري.

عمدة القصبة السيد نيري يرفض رغم ذلك مثل هذا التمثيل لمنظوريه، قائلاً ”قصة الحافلات هذه ببساطة غير موجودة. بالطبع توجد عنصرية، ولكن العنصرية في كل مكان. جاءوا يطلبون منا التوقيع على عريضة لتجريم الكراهية. نحن لسنا بحاجة للقوانين، نحن بحاجة لفرص العمل. الفقر هو المشكلة الأولى هنا“.

تصوير مجتمع السود الفقير المفصول صدم الجمهور التونسي، الذي لطالما اعتبر التجانس العرقي للبلاد أمرا مسلماً. على الرغم من استنكار وسائل الإعلام لما صُوّر على أنه فصل عنصري، فإن تقسيم المجتمعين (وهو أمر نادر في الواقع في البلاد)، له جذور قبلية وينبع من تاريخ طويل من العبودية. لذلك لا يمكن تعميم هذا التقسيم العنصري على كامل البلاد، وخاصة في ظل الجهوية الراسخة التي تقسم بين الشمال والجنوب. ”تونس تنتهي في صفاقس. هذه وجهة نظري“، هذا ما يؤكده طه، وهو كهربائي يبلغ من العمر 25 سنة من القصبة.

نظرا إلى الفصل الجغرافي الذي لا يمكن إنكاره والذي ينبع من المرجّح من تاريخ الرق، تمكن عبيد غبنطنمن استخدام وضعهم الهامشي لمصلحتهم و استطاعوا إحتلال مكانة اقتصادية، وقد مكنهم ذلك من متابعة خطة تحرر ناجحة وخلق نسيج اجتماعي قوي. ”نحن ندفع جماعيا لتعليم أطفالنا. علينا جميعا تقديم مبلغ صغير سنويا للمجموعة، لشراء الكتب المدرسية للأطفال الأكثر فقرا“، تقول أم أربعة أطفال في الستين من عمرها بكل فخر.

تصوير جاني تسيبولو

يسهم جمع المحار، إحدى وظائف النساء السود في المنطقة، في تعميق الاستغلال الرأسمالي للعمل، حيث يتم تصدير المحار وبيعه بعد ذلك إلى المطاعم الأوروبية الفاخرة بسعر يفوق بكثير ما تحصل عليه جامعات المحار. ولكن هذا النشاط هو الوحيد الذي يسمح للمرأة بكسب مبلغ صغير من المال، و تأمين دخل شخصي يمكن استخدامه حتى كمهر ثان في حالة الطلاق. ”تزوجت في سن مبكرة جدا، وأنا وزوجي… لم نفهم بعضنا البعض. قررت الطلاق، عائلتي لم تكن سعيدة. ولكن كانت تلك رغبتي. العيش بمفردي لم يخفني“، تقول جامعة محار تبلغ من العمر 40 سنة. وبالإضافة إلى ذلك، لطالما مثلت موسيقى الطايفة وسيلة للحراك الاجتماعي مكنت الموسيقين من تحصيل رأس مال اقتصادي و اجتماعي. ”لقد عزفنا في كل مكان. تطاوين و صفاقس، توزر و سوسة. عزفنا أمام بورقيبة و بن علي، وحتى خارج البلاد“، يقول أحد الموسيقيين.

أهملت وسائل الإعلام التشكل التاريخي للقصبة بتأكيدها على صورة قرية مفقرة يسودها الميز العنصري. و إن كان الفقر والبطالة يتصدران مشاغل الشباب، فإن هؤلاء يتشبثون بالقرية، معتبرين الهجرة خيارا مؤقتا. يقول أحد الشبان ”أحب القصبة وأريد أن أعيش فيها، أحيانا أشعر أن الناس هنا أكثر انفتاحا من سكان المدن الكبرى”.