التزاما بشروط الصندوق الدولي المتمثلة في استصدار قوانين تندرج في برنامج الإصلاحات التشريعية العاجلة، تقدّمت الحكومة التونسية بمشروع قانون يتعلق بالحق في النفاذ إلى المعلومة، تم إيداعه يوم 15 أوت 2014 لدى لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية. وبعد سلسلة من الاجتماعات عقدتها اللجنة المذكورة عُرِض يوم الثلاثاء المنقضي على الجلسة العامة، ولم تُحسم المصادقة عليه لتقع إحالته على لجنة التّوافقات.

هذا القانون تضمّن فصولا تعارضت في مقاصدها مع مبادئ الشفافية والمساءلة، خصوصا الفصل 24 المتعلق بالاستثناءات، الذي وسّع بصيغته الحالية موانع النفاذ للمعلومة لتشمل العلاقات الدولية والمصالح الاقتصادية للدولة والمداولات وتبادل الآراء ووجھات النظر والاستشارات. إضافة إلى هذا تعرّض مشروع قانون النفاذ إلى المعلومة إلى مسارات ملتبسة انعكست أساسا في الضغط الذي مارسه الطرف الحكومي على لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية بمجلس نواب الشعب، الأمر الذي خلق جدلا كبيرا في باردو بلغ حدود اتهام رئيسة اللجنة المذكورة، النائبة بشرى بالحاج حميدة، بالتواطؤ مع سياسة الفرض الحكومي.

الحكومة تصادر عمل اللجنة البرلمانية

شرعت لجنة الحقوق والحريات والعلاقات الخارجية بمجلس نواب الشعب بدراسة مشروع قانون الحق في النفاذ إلى المعلومة يوم 04 مارس 2015، وعلى ضوء الاجتماعات التي عقدتها اللجنة حصل إجماع بين أعضاءها حول ضرورة تعديل الفصل 24 من القانون المتعلق بالاستثناءات، وتوصلت إلى صياغة نهائية كان من المنتظر أن يتم عرضها على الجلسة العامة. ولكن الطرف الحكومي لم ترق له التعديلات المقترحة من قبل النواب فقام بسحب مشروع القانون في  جوان 2015 بتعلة الرغبة في إحداث تعديلات جديدة، ولكنه تمت إعادة مشروع القانون إلى اللجنة  أواخر شهر سبتمبر من نفس السنة بمضمون قديم-جديد يشبه إلى حد ما المشروع الأول المقترح في سنة 2014، وذلك بشهادة معظم أعضاء اللجنة.

إصرار رئاسة الحكومة على التمسك بالصيغة الأولية للفصل 24 لقي معارضة من طرف أعضاء اللجنة البرلمانية من مختلف الكتل، وبالتالي راهنت الحكومة على تمرير مشروع القانون للمصادقة عليه في الجلسة العامة دون فسح المجال لتعديلات جديدة، ولكن هذه الخطوة كانت مرهونة بتزحزح مواقف أعضاء اللجنة خصوصا المنتمين لكتل الإئتلاف الحاكم، وهو ما كان مستبعدا في ظل حالة الاجماع السائدة داخل اللجنة حول ضرورة تعديل فصل الاستثناءات.

ولكن اتضح أن رئيسة اللجنة، النائبة المستقيلة من نداء تونس، بشرى بالحاج أسعفت رئاسة الحكومة من خلال الدفع نحو عرض القانون على الجلسة العامة دون تعديله وذلك عبر الإيهام الإعلامي في مرحلة أولى بأن اللجنة توصلت إلى صيغة توافقية حول الفصل المتعلق بالاستثناءات، ثم الدعوة في مرحلة ثانية إلى جلستين للمصادقة على مشروع القانون، الأولى حضرها 5 أعضاء والثانية 11 عضو، في حين أن اللجنة تتكون من 22 عضو و9 أعضاء مستقيلين. ورغم الطابع الصوري للجلستين فإن رئيسة اللجنة أصرت على رفع تقرير المصادقة لمكتب المجلس، حيث عُرِض مشروع القانون على الجلسة العامة يوم الثلاثاء الفارط، متعللة بضغط الوقت وتغيب معظم أعضاء اللجنة، في حين أن العديد من النواب أكدوا أنهم لم يتلقوا إشعارا بحضور جلسة المصادقة مثلما أفادنا به عضو اللجنة مصطفى بن أحمد النائب في كتلة الحرة.

الفصل 24: مطية للحجب والتستر

أشار وزير الحوكمة ومكافحة الفساد أثناء افتتاح الجلسة العامة ليوم الثلاثاء 08 مارس 2016، أن ”مشروع القانون يكرس إدارة نزيهة وشفافة والاستثناءات التي تضمنها جاءت لحماية المصالح الاقتصادية للهياكل العمومية“. ولكن يبدو أن النزاهة والشفافية المُعلنة في الخطاب تتعارض مع جوهر الفصل 24، الذي جاء مثقلا باستثناءات النفاذ للمعلومة، الأمر الذي جعله محل معارضة من جل الكتل البرلمانية، ومن العديد من منظمات المجتمع المدني التي اعتبرت مشروع القانون يتعارض مع مقتضيات الدستور، وفي هذا السياق أصدرت كل من النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ومنظمة بوصلة والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب والشبكة الأورومتوسطية لحقوق الإنسان والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بيانا مشتركا، جاء فيه ”إن المصادقة على مشروع القانون في صيغته الحاليّة من قبل الجلسة العامّة دون مراجعة الفصل المتعلّق بالاستثناءات ستنسف حقّ النّفاذ إلى المعلومة المضمّن في الفصل 32 من الدستور وتفرغ القانون من محتواه“.

رغم الاختفاء وراء الحرص على المصالح الأمنية والاقتصادية للدولة فإن الحكومة لم تفلح في طمس التستر والحجب المقصودين، وهو ما انعكس في العبارات الفضفاضة التي تضمنها فصل الاستثناءات من قبيل ”المصالح الاقتصادیة للدولة والغیر“ و ”المصالح التجاریة المشروعة للھیاكل الخاضعة لأحكام ھذا القانون“ و ”المداولات وتبادل الآراء ووجھات النظر والاستشارات“ و ”العلاقات الدولية“. ولعل تمطيط العبارات وإيرادها في صيغ عامة يُشكّل معبرا لرفض مطالب النفاذ للمعلومة، لأن الجهات الحكومية بإمكانها في المستقبل منع هذا الحق تحت تعلة الحفاظ على المصالح الاقتصادية أو المصالح التجارية ”المشروعة“. وأمام توسيع مساحات الموانع والاستثناءات تتقلص ممكنات المساءلة والمحاسبة ليصبح القانون أداة من شأنها أن تضفي على الفساد المالي والإداري مسحة قانونية، وفي هذا السياق أكدت منظمة أنا يقظ في بيان لها ”إن جل الاستثناءات المدرجة في القانون استعملت سابقاً من قبل الإدارة في منعنا من الوصول إلى ملفات فساد في الشركات العمومية والبنوك العمومية والإدارة بصفة عامة وبالتالي فإن القانون بشكله الحالي هو محض ترسيخ لممارسات سائدة غير شفافة وغير قانونية“.

لم تفلح الجلسة العامة في تمرير الفصل 24، نظرا إلى حالة الرفض الشديدة خصوصا في صفوف المعارضة، وهكذا تم تسفير مشروع القانون إلى لجنة التوافقات التي تعمل عادة على تقريب وجهات النظر بين مختلف الكتل. وفي هذا السياق علم موقع نواة من مصادر برلمانية مطلعة أن الطرف الحكومي أبدى استعداده لتقليص هامش الموانع الواردة في القانون باستثناء العلاقات الدولية التي يصر على تصنيفها ضمن المصالح الأمنية للدولة.

إعفاء العلاقات الدولية من الوقوع تحت طائلة النفاذ للمعلومة يتعلق أساسا بالجانب الاقتصادي، لأن الحكومة تدرك مسبقا أن الاطلاع على الوثائق المتعلقة بالصفقات والالتزامات المبرمة مع الخارج من شأنها أن تفتح الباب على مصراعيه أمام فضح الفساد المستشري في هذا القطاع، علاوة على الاطلاع على طبيعة الارتباطات مع الدوائر المالية العالمية والتي يتسرب البعض منها بين الحين والآخر على غرار الوثائق المسربة التي تكشف الاتفاقات التي عقدها وزير التنمية والاستثمار ياسين ابراهيم مع بنك لازار، أحد أكبر المؤسسات المالية والاستشارية في العالم، وذلك لإعداد مخطط للتنمية في تونس. وفي نفس الاتجاه أعلنت وزارة التنمية والاستثمار أنها أبرمت عقد تعاون مع ”لوسيا قالبياتي“، الممثلة القانونية للشركة الإيطالية ICL، التي تبين فيما بعد أنها فرع للمجمع الكيميائي الإسرائيلي.