المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

politique-et-communication---media

تعد استراتيجيات الاتصال السياسي وتقنياته معيارا من معايير نجاح أو فشل الحكومات ومؤسسات الدولة. فهي كمثل الواجهة، تُعرض فيها البرامج والمواقف ملمّعة، مدروسة ومستجيبة لمتطلبات المرحلة.

يحظى الاتصال بمكانة معتبرة في جميع أنحاء العالم. فبواسطته تتم إدارة الأزمات واحتواء التجاوزات وتفنيد الإشاعات وبعث التطمينات. أما في تونس، فيبدو أن الاتصال هو آخر هم الحكومات المتعاقبة، كذلك مؤسسات الدولة، على رأسها مؤسسة رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة والوزارات المنبثقة عنها.

لعل أبرز ما يجعل هذا المجال أضعف حلقات سياسات الدولة في تونس هو ضعف الأداء الاتصالي إبان الهجمات الإرهابية والذي ينم عن ارتباك حكومي وسياسي ناتج عن عدم الإلمام بالمعطيات وأحيانا كثيرة عن عدم الاستعداد والإعداد لخطابات تتلاءم مع خطورة الوضع و دقته.

هذا فضلا عن الخطابات السطحية والمجانبة للانتظارات والتي تتضمن عبارات تهديدية تارة وترهيبية طورا، عوضا عن رسائل طمأنة والمعلومات المفيدة.

كذلك الظهور الإعلامي الغير مدروس للرؤساء وإدارتهم للصفحات الرسمية على شبكات التواصل الاجتماعي، كأن يتم نشر صور مخلة بهيبة الدولة ومؤسساتها. صور تنم عن عدم دراية بأبجديات الاتصال عندما يتعلق الأمر مثلا باستقامة الجلسة أو الهيأة أو تقاسيم الوجه أو بسلوكيات بروتوكولية.

شهدت تونس منذ تولي الباجي قائد السبسي رئاسة الدولة والحبيب الصيد رئاسة الحكومة ثلاث أكبر عمليات إرهابية في تاريخ البلاد استهدفت الأمنيين والمدنيين، أولها عملية باردو في مارس 2015 وعملية سوسة في جوان 2015 وعملية شارع محمد الخامس في نوفمبر 2015. تتالت العمليات وتطورت تقنيات الاتصال السياسي ولم يتحسن سلوك الدولة الاتصالي، فهي لم تتعظ مما سبق ولا مما حصل في فرنسا على سبيل المثال. ففي كل مرة يضرب الإرهاب بلادنا، يختفي رجال الدولة مفسحين بذلك المجال للإشاعات ولانتشار المعلومات الغير الرسمية. في فرنسا، تنعقد الندوات الصحفية في غضون سويعات يتم فيها الكشف عن ملابسات العمليات كما يُلقى فيها خطابات طمأنة لتحتوي الفزع الذي يصيب الجماهير ولتبعث برسائل تهدئة لمن أصيبوا في ذويهم. أما في تونس، فيتم عقد الندوات الصحفية بعد يوم من حصول العمليات الإرهابية ودون معلومات كافية ودقيقة، كعدد الإرهابيين الذين قاموا سواء بعملية باردو أو سوسة على سبيل الذكر، ودون خطابات مدروسة. ولعل أشهر جملة قيلت في هذا السياق هي جملة رئيس الدولة الباجي قائد السبسي: “عملية أخرى وتنهار الدولة” في كلمته التي وجهها للشعب على اثر عملية سوسة.

مؤخرا، قام رئيس الحكومة الحبيب الصيد بتحوير وزاري لم تمرعليه أيام معدودات حتى قامت تحركات احتجاجية غاضبة مطالبة بالتشغيل ومحاسبة المسؤولين الذين تسببوا بطريقة أو بأخرى في وفاة رضا اليحياوي، شاب من ولاية القصرين تسلق عمودا كهربائيا احتجاجا على محو اسمه من قائمة المنتدَبين في وزارة التربية. إذ به يُصعق بالكهرباء لتشعل وفاته احتجاجات شملت 16 ولاية من دون 24 في تونس، تلتها مواجهات عنيفة أسفرت عن عشرات الاعتقالات كما كبّدت الدولة خسائر مادية طالت مراكز شرطة وديوانة ومحلات تجارية، كما لقي أمني حتفه أثناء تفريقه للمتظاهرين.

خالد شوكات، القيادي بحزب نداء تونس الحاكم، خرج في أول إطلالة له كناطق رسمي باسم الحكومة اثر التحوير، ليعلن أنه سيتم خلق خمسة آلاف موطن شغل بالقصرين سنة 2016 كأول قرار للمجلس الوزاري المنعقد عقب الأحداث. لم تمر سويعات حتى نفى وزير المالية سليم شاكر هذا الخبر معلنا أن هناك خطأ اتصاليا وأنه لن يتم خلق 5000 موطن شغل إنما سيتم تمتيع 5 آلاف عاطل بآليات التشغيل التي تعوض الانتداب مؤقتا إن صح التعبير. لم يقف سوء التنسيق وتضارب الأرقام عند ذلك الحد، بل أضاف وزير التجارة محسن حسن، أنه سيتم استيعاب نحو 189 ألف عاطل عن العمل ضمن آليات التشغيل. كل هذه المعلومات المتباينة بُثّت في أقل من 24 ساعة في بلد مشتعل أقيم فيه حظر تجوال على اثر أعمال شغبٍ غطت نوعا ما على المطالب الأساسية التي قامت من أجلها التحركات الشعبية دون التفكير في ما يمكن أن يكون لمثل هذه الأخطاء الاتصالية من تبعات.

لعل هذا المشهد يختزل، من الناحية الشكلية، حجم ضعف الاتصال والتنسيق في حكومة الحبيب الصيد إذ أن هذه الأخيرة لم تستطع حتى نشر معلومة دقيقة تم الاتفاق عليها مسبقا في مجلس وزاري. أما مضمونا، فعوض أن يمتص هذا القرار غضب الجماهير، إذ به يؤلب الرأي العام ضد الحكومة، حيث أنه رأى في تلك الأرقام ضحكا على الذقون من ناحية وتفضيلا جهويا من ناحية أخرى حتى ولو اندرج ذلك ضمن استراتيجيات الدولة في التمييز الايجابي لصالح المناطق المحرومة، ذلك أن ولاية القصرين ليست الولاية المحرومة الوحيدة في تونس.

لا زلنا نتحدث عن تبعات الاحتجاجات التي انطلقت من القصرين، حيث قرر رئيس الحكومة التونسية الحبيب الصيد استقبال وفود من الأحزاب الحاكمة والمعارضة لإيجاد حلول لمشاكل البطالة والتنمية. لازالت القرارات لم تنبثق بعد من هذه المشاورات لكن ما يمكن استقاؤه من الصور التي نُشرت على الصفحة الرسمية لرئاسة الحكومة هو عدم جدّية هذه المفاوضات وذلك من خلال طريقة الجلوس في صالون والضحك أمام عدسات الكاميرات في حين أن موضوع النقاش هو التباحث حول الأزمة الاجتماعية التي ضربت البلاد. كان من الأجدر أن يجلسوا حول طاولة اجتماع وأن يحترموا الغضب العارم الذي اكتسح الشارع آنذاك بإظهار ملامح محايدة.

أما عن الخطابات المتعلقة بالأزمة، فإذا أحصيناها، فسنجد ثلاث خطابات في ظرف يومين ! اثنان لرئيس الحكومة وثالثا لرئيس الجمهورية، دون احتساب ظهور الصيد على قناة فرانس 24 عند مروره بفرنسا بما أنه كان متواجدا حينها بمؤتمر دافوس.
أما عن مضامين الخطابات، فلم تحتو على أي معلومات تُذكر غير إعلان حظر التجوال.

تتوالى الأزمات على دولة تعيش مرحلة انتقال هش على جميع المستويات، شهدت فيها حكومات متعاقبة لم تراكم فيها خبرة ولم تتعظ من زلات سابقاتها ولم تتخذ نهج نظيراتها. فما عساه يمكن أن يحدث حتى تطور الدولة من سياساتها الاتصالية وهل يتواضع أصحاب الحل والعقد يوما ما بأخذ نصح أهل الرأي أو تناوله بمحمل الجد ؟