المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

mosaique-romain-tunisie-eldjam-350

رغم التّنبيهات والإحتجاجات التي أطلقها العاملون في قطاع التراث حول الأوضاع المزرية التي يمرّ بها قطاعهم، ورغم التّقارير الإدارية والصحفية والبلاغات الأمنية حول ما يعانيه من فساد وجرائم، مازالت وزارة الإشراف تتلكّأ في فتح ملفّات هذا القطاع وإيجاد الحلول الكفيلة بجعله وسيلة لتعزيز هويتنا وتكريس سيادتنا الوطنية على الصعيد الثقافي وركيزة للتنمية الإقتصادية. فما نلاحظه أنّ كل الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة الثقافة والمحافظة على التراث منذ سنة 2011 قد أسقطوا من برامجهم حلّ معضلات قطاع التراث.

أزمة التّراث في جوهرها هيكلية

قد لا نبالغ إذا قلنا إنّ المعهد الوطني للتراث ووكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، في وضعهما الحالي، وحسب هيكلتهما الحالية، هما مقبرتين للتراث. إذ فضلا عن ضعف هيكلة كلّ منهما والذي تترتّب عليه تداعيات خطيرة داخل كلّ من هاتين المؤسّستين، فإنّ مطمح إحياء التراث واستثماره يذهب ضحية الإخلالات في التّنسيق بينهما، نظرا للتّداخل في المهام وعدم دقّة النّصوص المنظّمة لنشاط كلّ منهما.

وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا القطاع في حاجة ماسّة إلى رؤية جديدة تنطلق من التّقييم الدّقيق لوضع هاتين المؤسستين؛ في مستوى الهيكلة والإختصاصات والأنشطة، وتقف على مواطن الوهن والفشل، ثم تضع استراتيجية شاملة لتثمين التراث وإدراجه في سياق تنمية ثقافية وطنية وليكون ركيزة اقتصادية من شأنها أن تسهم في المجهود التّنموي العام وفي توفير مردود مالي يُسَخّر لحماية التّراث وتثمينه من جديد.

هذا إلى جانب تخلّف المنظومة التّشريعية المتعلّقة بالتراث. فجميع المختصّين يعرفون مدى الفقر الذي عليه مجلّة حماية التّراث الأثري والتّاريخي والفنون التّقليدية الصّادرة بتاريخ 24 فيفري سنة 1994، والتي لا توفّر الضّمانات القانونية الكفيلة بتوفير مستوى جيّد من الحماية لتراثنا الأثري والتّاريخي، فضلا عن الغياب التّام لأي إجراء يخدم التّراث الثّقافي غير المادّي، وهو أمر طبيعي نظرا لكونها صدرت قبل صدور اتّفاقية اليونسكو المعنيّة بنحو عشر سنوات، والتي صادقت عليها بلادنا سنة 2006.  وهو ما يحتاج تنقيحا عاجلا لكي تتلاءم مع التّطورات الحاصلة في التعامل مع التراث من حيث تنوّعه وإجراءات حمايته وصونه.

تمظهرات أزمة التراث

قطعا لن تكفينا هذه المساحة لبسط كل تمظهرات أزمة قطاع التراث، ولذلك سنكتفي بذكر بعض الأمثلة لعلّها توضّح واقع الحال:

التعدّيات والإنتهاكات التي تطال المواقع الأثرية والمعالم التاريخية

تشهد الكثير من المواقع الأثرية انتهاكات متعدّدة، منها ما يتمثّل في الحفريات العشوائية التي تقوم بها عصابات تهريب الآثار، وما ينجم عن الأعمال الفلاحية؛ والتي لا تخلو في بعض الأحيان من نيّة السرقة والتخريب المتعمّد، وما يقع بسبب التوسّع العمراني العشوائي، أو بسبب أنشطة صناعية كاستغلال المقاطع وغيرها، أو ما ينتج عن أشغال مشاريع عمومية لا تراعي فيها المؤسسات القائمة عليها حرمة الآثار – وهذا ما يستوجب تقنين استشارة المعهد الوطني للتراث في كل المشاريع العمومية والخاصة في كل التراب الوطني-. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعض جهات البلاد، وخاصة منها تلك الغنية بالمخزون الأثري، على غرار ولاية القصرين، لم يسلم منها أي موقع – نعم أي موقع، بما فيها المواقع الخاضعة لحراسة المعهد – من إحدى أمثلة الإعتداءات المذكورة آنفا. والخطير في الأمر أنّ الفاعلين، أو المشتبه فيهم، لا يُحاسبون على أفعالهم، أو تتأخّر إجراءات محاسبتهم كثيرا. وعلى أية حال لم يصل إلى أسماعنا ولو في مرّة واحدة أنّ أحد المورّطين نال جزاءه ! ونقدّر أنّ ذلك يعود إلى ضعف المعهد الوطني للتراث وبطء إجراءات التقاضي وغيرها. إذن كلّ ذلك أدّى إلى تخريب وطمس مخلّفات أثرية مهمة وضياع آلاف القطع الأثرية. ولعلّ حجز المصالح الأمنية لعدّة آلاف منها سنويا يؤشّر على مقدار النهب الذي يتعرّض له مخزننا الأثري.

وحتى لو افترضنا جدلا أنّ سوء التسيير والبيروقراطية والإنغلاق في المعهد الوطني للتراث ووكالة حماية التراث والتنمية الثقافية يحولوا دون اطّلاع مصالح وزارة الإشراف على حقيقة وضع القطاع، فإنّ التقرير السنوي الثامن والعشرون لدائرة المحاسبات العمومية، والذي غطّت أعماله الفترة الممتدة من سنة 2009 إلى سنة 2012، لا تخطئه عين اللبيب. فهو يقدّم بسطة كافية عن حالة الإنسداد والعطالة التي يعانيها القطاع، والتي لم يزيدها تتالي السنوات إلاّ عمقا.

ويذكر هذا التقرير أنّ عدد المعالم التاريخية المرتبة والمحمية بالبلاد التونسية يناهز 944 معلما منها 690 معلم يعود أمر ترتيبها أو حمايتها إلى ما قبل 1925، والكثير منها يشكو من نقص في الوثائق المكونة لملفات حمايتها وهو ما يضعف من حمايتها القانونية ! حتى لكأنّ أمر ترتيبها أو حمايتها لا يعدو أن يكون إجراء شكليا في أكثر الحالات. وكذا الأمر بالنسبة للمواقع الثقافية، وهو ما أدّى إلى تخريبها وتقلّص مساحتها بفعل الزحف العمراني حتى وصلت في بعض الحالات إلى نصف مساحتها الحقيقية (مثال موقع صبرة المنصورية بالقيروان، على سبيل الذكر لا الحصر). كما أشار إلى ضعف الحماية القانونية وانعدام الرّقابة والتّراتيب الإدارية الكفيلة بالمحافظة على المنقولات الأثرية، وهو ما يفتح الباب لضياعها وسرقتها والإتّجار غير المشروع فيها.

مشروع الخارطة الأثرية وعطالته المزمنة

ومن مظاهر الخراب الذي يعانيه التراث نذكر أيضا تعثّر أعمال مشروع الخارطة الوطنية للمواقع الأثرية والمعالم التاريخية (انطلق العمل فيه منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، وأصبح يسمّى منذ سنة 2007 الخارطة الأثرية ذات القاعدة المعلوماتية). وقد وصل الإنجاز الآن إلى حوالي 40 % من جملة الخرائط بالنسبة للمواقع الأثرية وإلى 12 % بالنسبة للمعالم والمجموعات التاريخية والتقليدية. وهذا يؤشّر بوضوح على حجم الفشل في هذا الغرض، رغم الأموال الطائلة التي سُخّرت لذلك.

نقائص جرد القطع الأثرية وبؤس ظروف حفظها: كما يشكو جرد القطع الأثرية بالمخازن الراجعة بالنظر للمعهد الوطني للتراث من إخلالات كثيرة، وبعض المجموعات محفوظة في ظروف سيئة ممّا يعرّض سلامتها للخطر بسبب عدم ملائمة عديد فضاءات الخزن لذلك من عدّة نواحي.

ضعف المنظومة المتحفية

برزت في العقود الأخيرة تحولات مهمّة في مستوى البنية الوظيفية والتصميمية للمتاحف في العالم، وهو ما انعكس على أدائها وارتباطاتها بالحركة الثقافية والتعليمية والسياحية والإقتصادية. إلاّ إنّ أثر ذلك ظلّ ضعيفا بالنسبة لمنظومتنا المتحفية، وبقيت متصلّبة وعقيمة في أكثر الحالات. ولم تبادر الجهات المسؤولة عن ذلك إلى إعادة النظر في مكامن الضّعف في متاحفنا الوطنية واعتماد أسس التّصميم الحديثة للعرض المتحفي لإعادة تطوير هذه المتاحف ورفع كفاءة أدائها وجاذبيتها، وإنصاف الجهات التي ظلّت تشكو من غبن كبير في إبراز تراثها وعمقها الحضاري. ولعلّ أبرز ما يعبّر عن ذلك هو عدم مطابقة إجراءات السّلامة ببعض المتاحف للمعايير المتعارف عليها (متحف سبيطلة نموذجا)، الشيء يؤدّي، في كلّ مرّة، إلى سرقة بعض القطع منها؛ وما حادثة سرقة تمثال غانيماد من متحف قرطاج ببعيدة. هذا إلى جانب بؤس وقصور العرض المتحفي في الكثير من متاحفنا، وضعف العمل التسويقي لها، فبات بعضها شبه مهجور إلاّ من بعض الموظفين العاملين فيها الذين لا حول لهم ولا قوّة.

وهذا ما يحيلنا على وهن منظومة استغلال وترويج وتطوير التراث، وتقع المسؤولية الأولى في ذلك على وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، بحكم اختصاصها بتلك المهمّات.

ضعف استغلال وتثمين الرّصيد التراثي

وفي هذا الإطار نلاحظ تخلّف استغلال الرصيد التراثي لدفع عجلة التنمية. و”غياب سياسة تسويقية تضبط أهداف واستراتيجية عمل دعم المتاحف والمواقع والمعالم وتحدّد بصفة مسبقة الأنشطة الترويجية المزمع إنجازها سواء على مستوى المعهد أو الوكالة”.

ومثال ذلك بعض المشاريع المتحفية التي استأثرت بأموال كبيرة ولكن حصادها كان في غاية الهزال. وذلك على غرار ما وقع بمتحف التراث التقليدي بجربة الذي وقع تجديده سنة 2008 بكلفة قدّرت بـ4100.000 دينار. وكان الإقبال قبل بداية الأشغال حوالي 20000 زائر سنويا، والإقبال المرتقب بعد التجديد 110000 زائر، وإذا به يتدحرج بعد ذلك إلى بضعة آلاف من الزوّار !

تهلهل مشاريع صيانة المعالم وتهيئة المواقع

وتوجد كذلك نقائص كبيرة في مستوى برمجة مشاريع صيانة المعالم وتهيئة المواقع، فعلى سبيل المثال لم تحظ المعالم التاريخية المهدّدة بولاية القصرين طيلة السنوات الخمس الماضية بأية عملية ترميم، رغم إنّ العشرات منها مهدّدة وفي حاجة عاجلة إلى الصيانة. علما وإنّه لا يوجد بكامل هذه الولاية إلاّ موقعا واحدا مهيّئا؛ وهو موقع سبيطلة.

مشكل العملة العرضيون

ومن المعضلات الأخرى التي يعانيها المعهد الوطني للتراث هو موضوع العملة تحت العنوان الثاني. وهو ملّف تلفّه شبهات سوء التصرّف في أضعف الإحتمالات. فمن ناحية استأثر هذا العنوان بميزانيات ضخمة دون مردودية تناسبها. ومن ناحية أخرى نجد أنّ التشغيل فيه خاضع في كثير من الحالات إلى المحسوبية، والدليل على ذلك هو إنّ العشرات منهم منتدبون للعمل في الإدارة المركزية وفي متحف وموقع قرطاج ومتحف باردو، وبعضهم يقوم بأعمال بسيطة وشكلية نظرا لكونهم لم يُنتدبوا لحاجة فعلية وماسّة يقتضيها العمل. هذا في الوقت الذي نجد فيه بعض الزملاء المرسّمين لا يقومون بواجباتهم المهنية على الوجه الأكمل، إمّا بسبب التّواكل أو بسبب وضعهم في “الثلاجة” أو بسبب غير مشاريع وبرامج عمل. وفي ذات الوقت يتعلّل بعض المسؤولين بحاجة المواقع الأثرية للحراسة، والحال أنّ أقل من نصف العملة تحت العنوان الثاني في المعهد حاليا (عددهم 271 عامل) فقط يعملون كحرّاس، ولربّما لو يقع التدقيق في ذلك لكشف عن مخالفات أخرى. وفي الوقت الذي يُحرم فيه الكثير من هؤلاء من أجورهم لشهور طويلة، وتفوق مدّتها السنة بالنسبة للبعض، لا تتأخّر أجور بعض زملائهم الآخرين لأكثر من بضعة شهور في أقصى الحالات. هذا وتجدر الإشارة إلى أنّ المعهد الوطني للتراث عرف في السنوات الماضية تجاوزات واختلاسات مالية في هذا الموضوع.

تدنّي الإنتاج العلمي في المعهد الوطني للتراث

تعاني مشاريع استكشاف وبحث التراث الأثري ونشر البحوث والدراسات من عدّة إخلالات. ولعلّ نظرة بسيطة على أوضاع منشورات المعهد كفيلة بكشف بعض من ذلك. فمجلة إفريقية (سلسلة الفنون والتقاليد الشعبية) صدر آخر عدد لها سنة 2009. ومجلة إفريقية (مجلة الدراسات والبحوث لفترات ما قبل التاريخ والكلاسيكية والإسلامية) صدرت سنة 2013 بعد توقّف دام حوالي خمس (5) سنوات (منذ سنة 2008). ومجلة إفريقية (سلسلة مجلة الدراسات الفينيقية البونية والآثار اللوبية) صدر آخر عدد لها سنة 2008. هذا بالنسبة للمجلاّت، أمّا بقية الإصدارات فنشر مقال بإحدى المجلات الأجنبية أو كتاب واحد سنويّا لأحد الزملاء الباحثين، من بين العشرات منهم، يعدّ حدثا بحدّ ذاته.

هذا وتجدر الإشارة أيضا إلى بعض المشاكل الأخرى على غرار مشكل اقتناء العقارات الأثرية وانتزاعها لفائدة الدولة وغيرها.

تردّي الأوضاع الإجتماعية والمهنية لأعوان وموظفي المعهد الوطني للتراث

إلى جانب المشاكل الهيكلية في قطاع التراث عموما وفي المعهد الوطني للتراث خصوصا، والتي أتينا على بعضها، لا بدّ من الإشارة كذلك إلى ما يعانيه أعوان المعهد من تدنّي لأوضاعهم المهنية والإجتماعية مقارنة بزملائهم في وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية، مع إنّ عبء العمل الأكبر في القطاع يقع على عاتقهم دون سواهم.

وفي هذا الإطار نشير إلى حجم الغبن الذي يتعرّض له سلك محافظي التراث والذين يقومون بأعمال مهمّة لحماية التراث وصونه والتكفّل بعبء الكثير من الأعمال الميدانية في ظروف مهنية واجتماعية صعبة، في مختلف مواقع العمل من مخابر ومتاحف ومواقع على امتداد جهات البلاد. ورغم نضالهم لما يقارب أربع سنوات من أجل تنقيح قانونهم الأساسي وإنصافهم وتسوية وضعية العشرات منهم ممّن يعملون في رتب دون مستوى شهائدهم العلمية فإنّ إدارة المعهد الوطني للتراث ووزارة الإشراف مازالتا تماطلان في ذلك وهو ما ينذر بتصعيد خطير في المستقبل القريب.

لقد نبّهنا سابقا، في مناسبات عديدة، على صفحات الصحف، وفي بعض المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الإجتماعي، ومن خلال البيانات والمراسلات النقابية والتقارير والإدارية وغيرها، حول ما يعانيه التراث في بلادنا من فساد وسوء تصرّف في مجمل حلقاته على غرار الموارد البشرية، الموارد المالية، البحث العلمي، التسيير الإداري، أعمال حماية التراث والتصرف فيه وتثمينه وتنميته وإحيائه. إلاّ أنّ كل ذلك لم يجعل وزارة الإشراف تتحرّك لحلحلة الأوضاع، ومازالت تصرّ على سياسة التجاهل ودسّ الرأس في الرّمل.

أخيرا، نقول إنّ إعادة هيكلة قطاع التراث وإرساء مؤسسات وهياكل مركزية وجهوية تعمل وفق قاعدة اللامحورية وتفعيل منظومة رقابية صارمة على أدائها هو مفتاح حلّ أكثر وأعوص المشكلات.