ministere-de-l-interieur-Tunisie copie

التمدّد الجغرافي السّريع للحراك الاحتجاجي وَضَع السلطات أمام حتميّة الإجابة عن مضمون التحركات الأخيرة التي يَلوح أنها شبابية بالأساسوتتخذ من مراكز السّلطة قاعدة لها، إذ أن معظمها يدور في مقرات المعتمديات والولايات.

اتساع الاحتجاجات رافقته اشتباكات بين أعوان الأمن والشباب المُتمرِّد على واقع التهميش والبطالة. وكعادتها التقطت الجهات الرسمية مشاهد إحراق العجلات المطّاطية و اقتحام مراكز السلطة وقذف أعوان الأمن بالحجارة لتُعيد تشكيل صورة رسمية من شأنها أن تضع حدّا لحُمّى الالتهاب الاحتجاجي وتفتح للطبقة الحاكمة مَسارب الخروج من هذا المأزق الذي عَمّقه غياب إجابة سياسية مقنعة على المطالب القديمة-الجديدة.

التشكيك في تركيبة المحتجين

انطلقت أولى مؤشّرات التّشكيك في التركيبة الاجتماعية للمُحتجّين عندما أعلن والي القصرين يوم الإثنين الفارط أن هناك مجموعة من “المُندسين” انتشرت في صفوف المعتصمين ولا علاقة لها بمطالب التشغيل والتنمية. ورغم أن تصريحات الوالي جاءت مُحّملة بالكثير من المَسكُوت عنه -خصوصا أنه لم يذكر لنا هوية هذه المجموعة وأهدافها وخلفياتها- فإنه أراد التأكيد أن الحركة خَرجت من سياقها الاجتماعي لتُصبح أشبه ببؤرة يجتمع فيها اللصوص والمجرمين وربما بعض الإرهابيين، وقد كانت  السلطة تأمل آنذاك في تطويق الحالة الاحتجاجية وعزلها عن التخوم المتأهبة للانفجار على غرار سيدي بوزيد وقفصة. ولكن التدفق السريع للحركة جعل الخطاب الرسمي يتغيّر باتجاه امتهان الحل السياسي من خلال إعلان جملة من الإجراءات الموجهة لولاية القصرين وبقية المناطق الداخلية التي سيشملها التمييز الإيجابي. ولكن يبدو أن هذا الحل لم يُفلِح في خفض منسوب التدفق الاحتجاجي لأنه لم يكن منطقيا ونفس الجهات التي أعلنته سرعان ما تراجعت عنه بتعلة أن الناطق الرسمي للحكومة وقع في خطأ اتصالي.

تصاعد وتيرة الاحتجاجات رَافَقته بعض أحداث الحرق والخلع التي اتخذت طابعا شبه -مُنَظّم في أحياء العاصمة على غرار عمليات النهب التي عرفها حي التضامن ليلة الجمعة 22 جانفي 2016 في ظل انسحاب أمني منظم أيضا. وهو ما أطلق العنان من جديد للدعاية الرسمية المضادة حتى تُسقِط على الأحداث مضامين مغايرة مثل العنف والفوضى واللّصوصية، وقد بلغ الأمر بالمكلف بالإعلام بوزارة الداخلية حد التأكيد على أن الأجهزة ترصد تركيبة المحتجين وتلاحظ وجود عناصر معروفة بانحدارها من وسط الجريمة وبانتماء بعضها الآخر إلى التيارات الدينية المتشددة، ولكنه لم يقدم لنا تفاصيل واضحة عن هوية هؤلاء وارتباطاتهم وخلفياتهم ليتأكد من جديد استمرار المنهج التعتيمي في التعاطي مع الميدان الاحتجاجي.

هذا المنهج المُشار إليه يُطِل على المشهد من زاوية ضيّقة، ويعوّل على التقاط بعض صور الحرق الهامشية المقتطعة من الأحداث ويضفي عليها صبغة العمومية ويلصق بها صفات الترهب والخوف، وهو تقريبا ما وقعت فيه –بقصد ودونه- جل وسائل الإعلام الحكومية والخاصة أثناء تغطيتها للأحداث، إذ انتصبت حصص تلفزية ونشرات إخبارية بأكملها تنظر إلى الأحداث بعين واحدة من خلال تضخيم أحداث العنف والحرق وربطها بالوضع الأمني للبلاد.

الإرهاب: قميص عثمان الجديد

شهدت الدعاية الرسمية تحوّلا تجلّى في إقحام عنصر الإرهاب كمعطى جديد في المشهد الاحتجاجي، وفي هذا السياق أكّد وليد اللوقيني، المكلف بالإعلام في وزارة الداخلية، منذ الثلاثاء الفارط أنه تم رصد تحركات لمجوعات إرهابية في خضم الاحتجاجات، وكان الهدف منها –حسب رأيه- استغلال الأوضاع الاجتماعية المتأججة لتسهيل التنقل في المدن. ولكن المكلف بالإعلام في وزارة الداخلية لم يقدّم معطيات دقيقة عن هذه التحركات وعن مدى ارتباطها بالمشاركين في الاحتجاجات، مُكتفيا ببعض الإشارات العامة من قبيل القول “الوضع الاجتماعي الهش سيستفيد منه منظري إدارة التوحش”. ولعل هذا الإسقاط القسري الذي مارسه الناطق الرسمي باسم الجهاز الأمني جعل الشكوك تتزايد حول وجود نوع من الاستخدام التوظيفي لظاهرة الإرهاب من أجل تطويق المطالب الاجتماعية وإرسالها إلى الهامش عبر فرض منطق الأولويات الأمنية. وهو ما يجعل الربط العضوي بين الارهاب والاحتجاج مُتهافِتا لأن الوقائع تطرح ربطا آخر أكثر عقلانية في بناء معطياته واستخلاص نتائجه.

وفي تصعيد مفاجئ تحدثت وسائل الإعلام المهيمن عن دخول تنظيم الدولة “داعش” على خط الاحتجاجات، وقد كان المصدر الوحيد لهذه الأخبار بعض التدوينات التي نشرتها صفحات فايسبوكية تابعة للتنظيم المذكور، علاوة على بعض الإشارات المتفرقة حول وجود تحركات إرهابية يدلي بها بين الفينة والأخرى مسؤولون في النقابات الأمنية أو بعض القادة الأمنيين على غرار العميد المتقاعد من الحرس الوطني علي الزرمديني الذي اعتبر المحتجين حلقة إسناد خلفية للمجموعات الإرهابية، ولم يكشف بدوره عن حقيقة هذا الربط من خلال معطيات ملموسة.

يبدو أن الدّفع بمعطى الإرهاب إلى مسرح الأحداث كان ضروريا للخطاب الرسمي للخروج من عنق الزجاجة وكسب شرعية جديدة تتمثل أساسا في حماية مؤسّسات الدولة ومحاربة الإرهاب.

مناطق الاحتجاج بين خطي الفقر والإرهاب

إن خارطة الاحتجاجات تشير إلى أن المناطق الحاضنة للحراك الاجتماعي -علاوة على اشتراكها في التهميش والهشاشة الاقتصادية والاجتماعية- ترتبط بشكل أو بآخر بظاهرة الإرهاب الجهادي، إذ تقع منطقة القصرين بين المثلث الجبلي، الشعانبي وسمامة والمغيلة، الذي يمثل معقلا تتحصّن به الجماعات الجهادية المسلحة منذ سنوات، وترتبط هذه الجماعات المُتَموقِعة في الجبال بشبكات ناشطة في القرى والمدن تؤمّن لها الدعم المادي واللوجستي، وتُشير العديد من التقارير السابقة إلى أن التواصل بين الشبكات الجبلية والمَدينية يجري في وضح النهار، وهو ما تغافل عنه الخطاب الرسمي أثناء التحركات الأخيرة. ولعل استمرار هذا التواصل لا يرتبط بالحركة الاجتماعية الناهضة بقدر ما يرتبط بالسياسات الأمنية العامة للدولة التي فشلت في كسر خطوط الإمداد الرابطة بين الجبل والمدينة.

بالإضافة إلى هذا تحولت القرى والمدن المتاخمة للجبال إلى أحزمة احتياطية للجماعات الجهادية لأنه يسهل استدراج شبابها المُعطّل والمُفقر إلى مربع التعاون مع الجهاديين، وبالتالي فإن التحصين الاستراتيجي لهذه القرى والمدن يبدأ بفك الارتباط الحياتي بالجبل وتوفير موارد رزق كريمة لسكانها من خلال إدراجهم ضمن الأولويات التنموية.

تقع بعض مناطق الاحتجاج الأخرى على الحدود التونسية على غرار جندوبة وحيدرة وفريانة ومدنين، وقد مثّلت هذه المناطق في فترات سابقة معابر لمرور الأسلحة والجهاديين. وعلاوة على أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية المتأزمة فهي تقع على خطوط التماس مع شبكات التهريب المحلية والإقليمية التي استفادت بشكل كبير من النشاط الجهادي المسلح في تونس وفي ليبيا، ولعل تحميل مسؤولية اللاّاستقرار الحدودي إلى الحراك الاحتجاجي الأخير يعد من قبيل القفز على الوقائع، لأن النشاط الحدودي لشبكات التهريب يشكّل الخطر الأبرز على الوضع الداخلي بوصفه منبعا رئيسيا تتغذى منه الجماعات المسلحة الناشطة في الجبال والمدن.