محمد سميح الباجي عكاز

لم تكن الجلسة العامّة لمجلس النواب يوم الأربعاء 09 ديسمبر 2015 عاديّة بكلّ المقاييس، حيث توتّرت الأجواء عند مناقشة الفصل 61 من الأحكام العامة لميزانيّة 2016 . الخلاف وصل إلى حدّ انسحاب عدد من نواب المعارضة قبل وبعد التصويت احتجاجا على هذا الفصل الذي استنسخ فحوى مشروع قانون المصالحة الإقتصادية والماليّة تحت تأثير لوبيات الفساد على مجلس نوّاب الشعب.

بعد فشل الإجتماعات التوافقيّة، واصل نوّاب الجبهة الشعبيّة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وصوت الفلاحين والمؤتمر من أجل الجمهوريّة، مقاطعة الجلسة العامة التي أسرع خلالها نواب الإتلاف الحاكم بالمصادقة النهائية على قانون الماليّة.

الفصل 61: صيغة معدّلة لتمرير مشروع المصالحة الاقتصاديّة

التشنّج والخلافات داخل مجلس النوّاب خلال أشغال مناقشة قانون المالية لسنة 2016 بدأ منذ الفصل 54 والفصل 56، حيث شهدت جلسة يوم الثلاثاء 08 ديسمبر 2015 انسحاب نواب الجبهة الشعبيّة والتيّار الديمقراطي احتجاجا على ما جاء في الفصلين المذكورين من إجراءات مشجّعة على التهرّب الجبائيّ بدلا من العمل على الحدّ منه ومحاسبة المتورّطين فيه. اصرار نواب الائتلاف الحكوميّ على تجاهل انتقادات نواب المعارضة ، دفع هؤلاء إلى التصعيد تزامنا مع التصويت على الفصل 61 من الأحكام العامّة لقانون الماليّة، والذّي سبقه جدل كبير في الأوساط الاقتصاديّة والسياسيّة، وحتّى من مكوّنات المجتمع المدنيّ، حيث عبّرت حملة “مانيش مسامح” عن رفضها لتمرير هذا الفصل الذي يستنسخ الفصل السابع من مشروع قانون المصالحة الاقتصاديّة ويحاول الالتفاف على موجة الرفض الشعبيّ التي رافقت عرض المشروع الرّئاسيّ في شهر سبتمبر الفارط.

نصّ الفصل 61 المعدّل على:

“يتمّ العفو عن مخالفات الصرف التّي ارتكبها الأشخاص من ذوي الجنسيّة التونسيّة قبل غرّة جانفي 2016 والآتي ذكرها:

  • عدم التصريح بالمكاسب في الخارج
  • عدم إعادة المداخيل ومحاصيل المكاسب المشار إليها بالفقرة “أ” أعلاه والمكاسب من العملات إلى البلاد التونسيّة وعدم احالتها كلّما اقتضت التراتيب تلك الإحالة.

كما يتم العفو عن المخالفات الجبائية المتعلقة بعدم التصريح بالمداخيل والأرباح المتعلقة بالمكاسب والعملات المشار إليها بالفقرتين “أ” و”ب” أعلاه، من العقوبات المنصوص عليها بالتشريع الجبائي الجاري به العمل.”

loi-de-finances-2016-article-61-reconciliation-economique

الجدل الذّي رافق التصويت على هذا الفصل، أثار نقاشات كثيرة في عدد من وسائل الإعلام، حيث دافع البعض من الخبراء عن المصادقة على هذا الفصل بتعلات أهمّها ضرورة توفير موارد للدولة في ظلّ الأزمة الاقتصاديّة الخانقة إضافة إلى نجاح مثل هذه الإجراءات في توفير موارد ماليّة ضخمة في دول على غرار المغرب التي أقرّت قانونا مشابها.

يردّ الخبير الاقتصادي مصطفى الجويلي على هذه الادعاءات ليشير إلى أنّ قيمة الأموال المستردّة في التجربة المغربيّة لم تتجاوز 1% من الأموال المنهوبة، كما تمّ إيداع تلك الأموال في فروع البنوك الأجنبيّة في المغرب، بعيدا عن رقابة حقيقيّة للدولة، وهو ما تقرّه الوثائق الرسميّة التّي اعترفت بفشل هذه التجربة في توفير موارد ماليّة هامّة للخزينة العامة. ويضيف الجويلي أنّ لوبيّات الفساد تقف وراء الضغوطات الممارسة على النواب للمصادقة على فصل يعفيها من المحاسبة والتّي تسعى لضمان مصالحها على حساب توفير آليات للإصلاح الجبائي. وقد استغرب محدّثنا من تعامل الإعلام المهيمن مع الأصوات المعارضة وسياسته الانتقائيّة التّي تعتمد على خبراء من لون سياسي وفكريّ واحد.

في نفس السياق يعلّق الخبير الاقتصادي لطفي بن عيسي أنّ ما حدث يوم الأربعاء في مجلس النواب هو التفاف على الإرادة الشعبية الرافضة لقانون المصالحة، عبر تمريره في شكل فصل في الميزانيّة واستغلال الأغلبيّة النيابيّة لجعله أمرا واقعا. وهو ما يؤكّد إصرار الائتلاف الحاكم على انتهاك مسار العدالة والقفز على ضرورة المسائلة والمحاسبة قبل المصالحة. وإنّ اعتبر بن عيسى أنّ توفير موارد إضافيّة للدولة صار مسألة عاجلة أمام تفاقم عجز الموازنات العموميّة، ولكنّ ليس بهذه الطرق الملتويّة والمنتهكة لحقّ الدولة والأفراد في محاسبة المخالفين.

نوّاب المعارضة يقاطعون الجلسات العامّة

خطورة تمرير الفصل 61، دفع نواب الجبهة الشعبيّة ومختلف الكتل النيابيّة لأحزاب المعارضة على غرار التيار الديمقراطي وحزب المؤتمر من أجل الجمهوريّة وحركة الشعب وحزب صوت الفلاّحين إلى مقاطعة الجلسة العامّة حسب ما أفادنا به النائب عن الجبهة الشعبيّة فتحي الشامخي. وقد صرّح النائب الشامخي الجلسة التوافقيّة لصباح الخميس 10 ديسمبر 2015 باءت بالفشل، مقترحات نوّاب الائتلاف الحاكم لم تتضمّن تعديلات جديّة تمسّ جوهر الفصل محلّ الخلاف. وقد أكّد محدّثنا أنّ الكتل النيابيّة المنسحبة مصمّمة على موقفها وترفض أنّ تكون شاهدا على مثل هذا الإنتهاك الصارخ لمسار العدالة الانتقاليّة والتعسّف على ميزانيّة الدولة. وفي ختام حديثه أشار فتحي الشامخي إلى أنّ النسخة الاصليّة من الفصل 61 المقدّمة من قبل الحكومة لم تتضمّن هذه الإجراءات الخاصّة بالعفو الجبائيّ، متّهما كتلتي النداء والنهضة بإضافة هذه التعديلات وعملا على تمريرها عبر استغلال الأغلبيّة البرلمانيّة.

مجلس نوّاب الشعب أم مجلس نوّاب اللوبيات؟

تكشف المقارنة بين الفصل المعدّل من قانون المالية لسنة 2016 والفصل 7 من مشروع قانون المصالحة عن تطابق شبه تامّ. هذا الاستنساخ للفصل المذكور من مشروع المصالحة الاقتصاديّة يعكس طبيعة الأطراف التي ضغطت لتضمينه في قانون المالية، والتيّ قامت بخطوات سابقة كرّست تواجد أصحاب الثروات بشكل فاعل في المشهد السياسيّ بعد أن ارتضت الأحزاب المتنافسة أن تفتح الباب لهؤلاء للمشاركة الفعليّة في الحياة السياسيّة بدل الاكتفاء بدور المساند أو المموّل للحملات الانتخابيّة.

هذا ما أكّدته النائبة عن التيار الديمقراطي سامية عبّو التّي اعتبرت أنّه تمّ حشر القانون عمدا في الميزانيّة خدمة لأطراف معيّنة ولوبيات مستفيدة من تمرير قانون المصالحة الوطنيّة دون حساب أو مسائلة. وقد استغربت النائبة من الوقاحة التي وصلت إليها هذه الجماعات التي صارت تمارس ضغطها في العلن وبدعم سياسيّ من الأحزاب الحاكمة، والهدف الأساسيّ لهذه الممارسات بحسب محدّثتنا هو تهميش دور الدولة اقتصاديّا وحماية المتهرّبين من دفع مستحقّات الدولة وهو ما يمثّل تشجيعا لمواصلة هذه المخالفات على غرار ما تضمّنه الفصلان 54 و56 من قانون ميزانيّة الدولة للسنة القادمة. أمّا عن التطوّرات الأخيرة في مجلس النوّاب، أفادتنا سامية عبّو أنّ نواب الائتلاف الحاكم سعوا لتفريق كتل نوّاب المعارضة، ولكنّ النوّاب المقاطعين صمّموا على توحيد مواقفهم ورفض المشاركة في هذه المؤامرة على الاقتصاد التونسيّ ومسار العدالة الانتقاليّة التّي يسعى الائتلاف الحاكم لنسفها من الأساس.