crise-nidaa-tounes

بقلم غسّان بن خليفة،

الفاشية لن تمرّ مهما كان الثمن الذي وجب دفعه.

من يقرأ هذا المقتطف من بيان المكتب التنفيذي لحزب نداء تونس، على إثر أحداث 1 نوفمبر، يخال لوهلة أنّه صادر في ثلاثينات القرن الماضي عن الجمهوريّين الأسبان في عزّ صراعهم مع الجنرال فرانكو.

إلاّ أنّ التمعّن في وقائع الصراع داخل الحزب، وآخر حلقاته في الأسبوع الماضي، يوحي باستنتاجات أقلّ مجدًا.

الخصومة مع النهضة: الذريعة السياسية

ما إن وضعت الانتخابات الأخيرة أوزارها حتى دبّ الخلاف داخل “النداء”. ومُذّاك الوقت تعدّدت محاور الصراع بين التنظيمي والذاتي والسياسي. فيما يخصّ المحور الأخير كانت العلاقة مع حركة النهضة هي العنوان القارّ والأبرز. ولا غرابة في ذلك، إذ أنّ الأمر يتعلّق بحزب جعل من معارضة النهضة غاية وجوده وتأسيسه.

وقد نجح الحزب في تجنب التفكّك بعد القرار المفاجأة، الذي وصفه بعض قيادييه بـ”الانقلاب على الصندوق“، لزعيمه قائد السبسي بالتحالف/الصفقة مع حركة النهضة. لكنّ أحد طرفيْ الصراع ظلّ مثابرًا على اتّهام النهضة بوقوفها وراء ما يجري داخل “النداء” وواصل جزء من الإعلام في تصوير ما يجري على أنّه صراع بين “يساريين ونقابيين” يرفضون التحالف مع النهضة، وبين “الدساترة” الذي يبحثون عن “صلح تاريخي” معها.

ولا شكّ في أنّ بعض قياديي النداء صادقٌ في “قطيعته الإيديولوجية” مع الإسلاميين، لكنّ الاعتقاد بأنّ “عداء النهضة” هو المحور الأساسي للصراع لا يبدو دقيقًا. إذ يُلاحظ مثلاً أنّ محسن مرزوق، الأمين العامّ للحزب، الذي سطع نجمه بفضل معارضته الشديدة للنهضة قد خفّف في الفترة الأخيرة من حدّة مواقفه ضدّها. فمن خطاب “دماؤهم سوداء ودماؤنا حمراء”، صارت مواقف مرزوق من النهضة وقيادتها أكثر تفهّما، وحتّى تودّدًا.

بل وأكثر من ذلك، تكشف مصادر مقرّبة من حركة النهضة أنّ مرزوق قريب جدًا من رجل الأعمال المحسوب على النهضة المنذر بن عيّاد، الذي يُعدّ همزة الوصل بينه وبين قيادات الحركة. كما أعلمنا قيادي بأحد أحزاب الترويكا السابقة أنّ مرزوق بات يردّد في لقاءاته مع المسؤولين الأمريكيين أنه يرى العلاقة مع النهضة كـ”شراكة استراتيجيّة”.

يُلاحظً أيضا أنّ بعض المحسوبين اليوم على “شقّ حافظ قائد السبسي” هم من الذين عُرفوا بمعارضتهم الشديدة للنهضة، وكانوا من المقرّبين من محسن مرزوق ومجموعته. ومن أبرزهم رضا بلحاج مدير الديوان الرئاسي، وسعيدة قراش، مستشارة رئاسة الجمهورية المكلّفة بالمجتمع المدني.

الطموحات الشخصية واللوبيات المالية

لا يمكن الاطمئنان إلى الرواية السطحيّة التي تصوّر الصراع على أنّه بين “اليساريين” و”الدساترة”، عندما نرى أنّ بعض أسوأ التجمّعيين، كحسونة الناصفي، الكاتب العامّ السابق لمنظمة طلبة التجمّع، وعبادة الكافي، الغنيّ عن التعريف، يتواجدون في المعسكر الأوّل، فيما يتموقع “يساريون” سابقون كخميس قسيلة وقرّاش وبلحاج مع المعسكر الثاني.

لا يختلف اثنان حول حنكة محسن مرزوق ودهائه، بغضّ النظر عن الرأي الممكن في المشروع الذي يحمله منذ أن “طلّق اليسار”، كما يحلو له أن يردّد. لكن بالمقابل لا تدلّ تصريحات غريمه حافظ قائد السبسي، ولا شخصيّته أو سجلّه، على أنّه صاحب مشروع سياسي. بل يبدو واضحًا أنّ الرجل واجهة “فاخرة” – بفضل اسم والده – لمن يحيطون به من رجال أعمال يريدون اقتحام عالم السياسة ولقياديين منافسين لمرزوق. وبدا واضحًا خلال الخروج الأخير لنائب رئيس الحزب على قناة نسمة، أنّ أكثر ما يهمّ الرجل هو حاجته النفسيّة لانتزاع اعتراف من والده بحنكته ووفائه.

ولعلّ الحديث أعلاه عن العلاقة بوسط الأعمال يُعدّ مفتاحًا أساسيًا لفهم ما يجري. إذ تردّدت في الفترة الأخيرة أسماء رجال أعمال من داخل الحزب وخارجه، يتموقعون مع هذا الطرف أو ذاك، مثل فوزي اللومي ورضا شرف الدين والمنصف السلاّمي وكمال لطيّف، إضافة إلى الاسم الأبرز شفيق الجرّاية.

ومن الواضح أنّ التنافس بين اللوبيات المالية هو من أهمّ محرّكات الصراع داخل نداء تونس. إذ رأينا كيف سمح اصطفاف نبيل القروي إلى جانب حافظ قائد السبسي بأن تحصل قناة نسمة على البثّ الحصري للاحتفال بجائزة نوبل للسلام في قصر قرطاج.

يدلّ ما سبق من معطيات، وغيرها، على أنّ الصراع داخل نداء تونس مصلحيّ أكثر منه سياسي. إذ تتقاطع فيه الطموحات المستقبليّة لبعض قياداته مع مصالح اللوبيات المالية المرتبطة بكلّ فريق. بذلك فقط يمكن أن نفهم التغيير المتواصل لمواقف عدد من قياديي الحزب من “شرعيّة الهيئة التأسيسيّة”، و”تاريخ المؤتمر التأسيسي”، وغيرها من العناوين التنظيميّة لأزمة نداء تونس.

الانقسام ضريبة السلطة؟

لكن ظاهرة انقسام الأحزاب لا تقتصر على حزب نداء تونس. بل تذكّر بأزمات مشابهة عاشتها أحزاب أخرى في السنوات الأخيرة، إزدادت حدّتها بقدر اقترابها من ممارسة السلطة. منها على سبيل الذكر : الانقسام الذي حصل داخل الحزب الديمقراطي التقدّمي، الذي انبثق عنه الحزب الجمهوري والتحالف الديمقراطي إبّان مشاركته في حكومة الغنوشي؛ المؤتمر من أجل الجمهورية، الذي خرج من رحمه حركة وفاء والتيّار الديمقراطي والانشقاق الذي حصل مبكّرًا داخل حركة آفاق والخ.

مقابل ذلك، تميّزت حركة النهضة بتماسكها وعدم حصول انشقاقات تنظيميّة داخلها، رغم أنّ ممارستها الحكم جعلها تعيش صراعات داخلية جدّية، كان أبرزها أزمة “حكومة التكنوقراط” إثر اغتيال شكري بلعيد.

هذه المفارقة يفسّرها الناشط السياسي المستقلّ العيّاشي الهمّامي بأمرين تتميّز بهما النهضة عن جلّ الأحزاب: الأوّل أنّها “حزب إيديولوجي بالأساس، يمثّل الدين فيه مرجعية مشتركة لجميع عناصره”. أمّا الثاني، فهو اقتناع أعضائها بأنّ “خسارة النهضة تعني خسارة فرديّة لهم جميعًا”، وذلك بالنظر إلى تخوّفهم الشديد من تكرار تجربة القمع الجماعي التي عاشها أعضاء الحركة قبل الثورة.

ومهما تكن التفسيرات، يتبيّن اليوم أنّ هذا الانضباط التنظيمي لأعضاء النهضة كان ورقة رابحة. إذ قد يفضي “انقلاب” الخميس الفارط داخل نداء تونس إلى انقسامه، وبالتالي إلى تخلّيه عن تزعّم الائتلاف الحاكم. وفي تلك الحالة، ستكون حركة راشد الغنّوشي المستفيد الأكبر من أزمة شريكها اللدود.