article-37-constitution-manich-msameh

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

حرية الاجتماع والتظاهر السلميين مضمونة.
الفصل 37 من الدستور التونسي

العنف كعقيدة أمنيّة، لم يكن وليد نظام بن عليّ في مواجهة التحرّكات الإحتجاجيّة والانتفاضات الشعبيّة، بل عرفت تونس خلال الحقبة البورقيبيّة مواجهات عنيفة بين القوّات الأمنية والمواطنين خلال محطّات تاريخيّة عديدة، كان أكثرها دمويّة إضراب 26 جانفي 1978 وانتفاضة الخبز في جانفي 1984 الذّين أدّيا إلى سقوط عشرات الضحايا.

العقيدة الأمنيّة ظلّت على حالها، وهو ما أثبتته التحرّكات الجهويّة لحملة “#مانيش_مسامح“، حيث لم تتوان قوّات الأمن على التنكيل بالمحتجّين في العاصمة وصفاقس وسيدي بوزيد والكاف تحت غطاء “قانون الطوارئ” والحرب على الإرهاب.

بعد أن صرّح رئيس الجمهوريّة الحالي في مارس 2011 إثر تولّيه رئاسة الحكومة بأنّ القنّاصة إشاعة، وبعد أن تمّ طي ملف الشهداء ومحاسبة السياسيّين والمسؤولين خلال فترة حكم بن عليّ، وبعد أن اثبتت التجارب أن وعود الرخاء والنموّ والتنمية كانت إشاعة، يبدو أنّ محاولة فرض قانون المصالحة الاقتصاديّة يثبت أنّ ما تمّ تضمينه من حقوق دستوريّة لم يكن هو الآخر سوى إشاعة.

الانتهاكات الانتقاليّة

خلال تعاقب الحكومات “الانتقاليّة” الخمس بدءا من محمد الغنّوشي مرورا بالباجي قايد السبسي وحمّادي الجبالي وعليّ العريّض وصولا على مهدي جمعة، سُجّلت عودة قويّة للممارسات القمعيّة في مواجهة التحرّكات الإحتجاجيّة والأصوات المناوئة لكلّ حكومة.
فترة محمد الغنّوشي شهدت إجهاض اعتصام القصبة 1 والتعامل بوحشيّة مع الشباب الذّي حاول استكمال المسار الثوريّ بعد أن تفاجأ بتشكيلة أوّل حكومة بعد “الثورة” والتي ضمّت وجوها من النظام السابق، لتعقبها محاولات جديدة لإجهاض اعتصام القصبة 2 عبر الجهاز الأمنيّ تارة وعبر مأجورين ومنحرفين طورا.

حكومة الباجي قائد السبسي استكملت سياسة القمع والمواجهة العنيفة مع بعض التحرّكات الاحتجاجية التي اعتبرت تنصيبه رئيسا للحكومة استمرارا للحقبة الماضية كما حدث في شارع الحبيب بورقيبة في رمضان من سنة 2011 بالإضافة إلى التعامل الأمنيّ مع المحتجّين في القصبة والذي عرف “بالقصبة 3”.

على المستوى القانوني، أصدر الباجي قايد السبسي في أوج الحملة الانتخابيّة المرسوم 106 بتاريخ 22 أكتوبر 2011، الذي نصّ على سقوط جريمة التعذيب بالتقادم، وبالتحديد بعد 15 سنة، وهو ما يمكن اعتباره من أكبر انتهاكات المرحلة “الانتقاليّة”. إذ يعطي هذا المرسوم فرصة لجلاّدي الأمس للإفلات من العقاب والمسائلة نتيجة جرائم ارتكبت في حق مئات المواطنين التونسيّين خلال ذروة الحملات الأمنية ضدّ النشطاء السياسيّين والحقوقيّين في أوائل التسعينات من القرن الماضي.
ممارسات الجهاز الأمني لم تتغيّر عقب وصول حركة النهضة إلى الحكم بعد انتخابات أكتوبر 2011، فقد سجلت المنظّمات الحقوقيّة المحليّة والدوليّة العديد من الانتهاكات لعلّ أبرزها قمع مظاهرة المعطّلين عن العمل من أصحاب الشهائد العليا في 07 أفريل 2012 بشارع الحبيب بورقيبة لتتواصل الهجمة الأمنية الشرسة خلال إحياء عيد الشهداء في 9 افريل من نفس السنة.

المفاجأة كانت بعدها بأشهر خلال مواجهة الاحتجاجات التي شهدتها مدينة سليانة في نوفمبر 2012، حيث عمدت قوّات الأمن لاستعمال طلقات الخرطوش أو ما يعرف “بالرشّ” لقمع الأهالي وتفريقهم، ممّا أدّى إلى إصابات بليغة على مستوى العيون أدّت في حالات عديدة إلى العمى.

[youtube https://www.youtube.com/watch?v=flz0ljdnDiU&w=640&h=360]

انتهي حكم حمّادي الجبالي بعد اغتيال القياديّ في الجبهة الشعبيّة شكري بلعيد والذّي أفضى إلى مواجهات عنيفة بين الأمن والمحتجّين انتهت إلى استقالة هذا الأخير وتولّي وزير الداخليّة آنذاك عليّ العريّض منصب رئاسة الحكومة.

تغيّرت الأسماء وتواصلت نفس السياسة الأمنيّة، ففترة حكم العريّض تميّزت بحجم العنف المسلّط على المحتجّين عقب اغتيال القيادي الثاني في الجبهة الشعبية محمد البراهمي، إذ أدّت المواجهات بين الأمن والمحتجّين إلى مقتل محمد المفتي في قفصة وجرح 65 متظاهرا بالإضافة إلى العشرات من الإصابات في مختلف المدن التونسيّة والاعتداء على ثلاثة من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي وهم نعمان الفهري، محمد علي نصري ومنجي الرحوي، وكذلك حادث سيارة وحدات التدخل التي قامت بدهس أحد الشبان المتظاهرين بساحة باردو. كما سجّلت تلك الفترة سجن مغنّي الراب “ولد الكانز” بتهمة الشتم والقذف لقوّات الأمن بالإضافة إلى استمرار مظلمة سامي فرحات تلميذ الباكالوريا الذي اعتقل دون محاكمة لأكثر من سنة بتهمة حرق مقرّ النهضة خلال المظاهرات في ولاية قفصة بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد.

⬇︎ PDF

سقطت حكومة النهضة ولكن العقيدة الأمنية لم تتغيّر، فرئيس حكومة “التوافق الوطني” الجديد مهدي جمعة لم يحد عن ممارسات سابقيه على المستوى الحقوقيّ والأمنيّ، إذ تواصلت الانتهاكات والاعتداءات على نشطاء المجتمع المدنيّ كما حدث مع خليفة نعمان وعزيز عمامي وصبري بن ملوكة وصفوان بوعزيز ولينا بن مهنّي وهالة بوجناح والاعتداء على اعتصام قدماء اتحاد الطلبة للمطالبة بحقهم في التشغيل، كما شهدت نهاية فترة حكم مهدي جمعة تسريع إجراءات محاكمة شباب الثورة في القصرين والمنستير وسيدي بوزيد بتهم حرق المراكز الأمنيّة وهو ما دفع المجتمع المدني حينها إلى تنظيم حملة “حتى أنا حرقت مركز” للتصدّي للحملة الانتقاميّة الأمنيّة.

الانتهاكات الشرعيّة

عقب الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة الأخيرة، لم يتغيّر التعاطي الأمني والسياسيّ مع التحرّكات الاحتجاجيّة، فمسلسل العنف البوليسيّ “الشرعيّ” ضدّ التحرّكات الاحتجاجيّة بدأ صبيحة الإعلان نتائج الانتخابات الرئاسيّة خلال الاضطرابات والمظاهرات التي شهدتها بالخصوص ولايات قابس ومدنين ودوز.
هذه التحرّكات وإن حملت طابعا سياسيّا أدّى على انقسام المواقف تجاهها وانخراط البعض في تبرير التدخّل الأمني العنيف، فإنّ ما لحقها من احتجاجات أثبت طبيعة السياسة الرسميّة تجاه الحراك الاجتماعيّ القائم على التعامل العنيف مع الأصوات المحتجّة، لتتلاحق الأحداث في احتجاجات الفوّار وقفصة والصخيرة وأخيرا الوقفة الاحتجاجيّة لاتحاد الفلاّحين والتي جوبهت بالقمع والتنكيل رغم طابعها الاجتماعيّ ومطالب التنمية ومعالجة معضلة التفاوت الجهوي والاحتجاج على انقطاع المياه.

التدخّل الأمني العنيف لم يتوقّف عند المواجهات في الشارع، بل شمل عمليات الإيقاف والمحاكمات التي طابت العديد من الفاعلين في الحراك الاجتماعي، إذ تواصلت محاكمات شباب سليانة فيما يعرف بأحداث الرشّ في شهر أفريل الفارط، إضافة إلى شباب سيدي بوزيد وقصيبة المديوني، ومحاكمة الشاب مهيب التومي من جرجيس بسبب تدوينة تعود لسنة 2012، وأخيرا إحالة الناشط الأمين البوعزيزي للقضاء بتهم القذف والشتم على خلفيّة آراءه السياسيّة التي دوّنها على حسابه الخاصّ في الفايس بوك.

حملة “مانيش مسامح”، لم تكن استثناء في طريقة تعامل البوليس مع “المغضوب عليهم” والمغرّدين خارج السرب الحاكم، وقد رصدت نواة خلال الأيّام الأخيرة انتهاكات خطيرة وعنفا مفرطا في مواجهة الاحتجاجات الرافضة لمشروع المصالحة الاقتصاديّة الذّي طرحته رئاسة الجمهوريّة.

[youtube https://www.youtube.com/watch?v=KOXXsDi8k3c&w=640&h=360]
الانتهاكات تجاوزت التعنيف والضرب الذّي طال العديد من النشطاء على غرار مريم بريبري ووائل نوّار وسيف العيّاري ووسام الصغيّر وغيرهم من الشباب المشارك في الحملة ليجترّ الامن عادة قديمة تتمثّل في تصوير المحتجيّن لالتقاطهم لاحقا من الشوارع والبيوت بعيدا عن عيون الإعلام.

11200883_858729054241934_2570072656928451192_n
الاعتداء بالعنف الشديد على الناشط سيف العياري أثناء مشاركته في الوقفة الاحتجاجيّة ضدّ مشروع قانون المصالحة “مانيش مسامح” في صفاقس

الاعتداء بالعنف الشديد على الناشط سيف العياري أثناء مشاركته في الوقفة الاحتجاجيّة ضدّ مشروع قانون المصالحة “مانيش مسامح” في صفاقس

هذا الإفراط في العنف والرغبة المحمومة لوأد الحملة قبل توسّعها يفرضها سباق مع الوقت تسعى السلطة لكسبه قبل العودة المدرسيّة والجامعيّة وانطلاق سلسلة جديدة من المواجهات خصوصا مع الاتحاد واحتمال فشل أو تعثّر المفاوضات مع هذا الأخير حول الزيادات في القطاعين العام والخاصّ.