المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

Economie-devise-tunisienne-50--dinars

بقلم أحمد بن مصطفى

في الجزء الأول من هذا المقال المخصص لبحث أسباب فشل النمط الاقتصادي التونسي القائم على إستقطاب الاستثمارات الخارجية في الصناعات التصديرية الأوروبية والاندماج في العولمة الاقتصادية والتجارية، من بوابة الشراكة والتبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي، بيّنت أن تخلي تونس المبكر عن التخطيط الاستراتيجي للتنمية وعن بناء منظومة صناعية وطنيّة عصريّة جاذبة للاستثمارات الغربية ذات القيمة المضافة العالية وقادرة على استيعاب وتطوير التقنيات والتكنولوجيات الحديثة وتوظيفها لإنتاج سلع صناعية تونسية متطورة وذات قدرة تنافسيّة عالية ـ على غرار البلدان الصناعية الصاعدة ـ هو أحد الأسباب الرئيسيّة لهذا الاخفاق باعتبار أهميّة التصنيع وما يرافقه من منظومات بحثيّة وعلميّة في أي عمليّة تنموية ناجحة.

فقد ثبت تاريخيا منذ الثورة الفرنسية، ومن خلال تجارب الدول الصناعية الكبرى القديمة والصاعدة أن النهضة الصناعية  تعد أساس التنمية الحقيقية لأنها السبيل الوحيد لتحديث كافة القطاعات الاقتصادية الحيوية كالفلاحة والخدمات، وإكتساب التكنولوجيات والتقنيات الحديثة الكفيلة بتمكين الدول من إستغلال ثرواتها الطبيعية و كل ذلك من خلال اكتساب الحد الأدنى من الاستقلالية العلمية و المالية. هذا فضلا عن كونها مصدر رئيسي لتحقيق التوازنات التجارية والمالية الكبرى للدول وتجنيبها الوقوع في المديونية المفرطة وما يترتّب عنها من تبعيّة اقتصادية ومالية للخارج وللمؤسسات المالية الدولية كما حصل لتونس منذ منتصف الثمانينات.

كما تبين لنا أن فشل تجربة التصنيع بتونس و إنفتاحها الإقتصادي غير المدروس و غير المقيد بضوابط و برؤية مستقبلية أدى إلى حصرها، ضمن منظومة العولمة، في أدوار إقتصادية متدنية فضلا عن تكريس تبعيتها الإقتصادية و المالية للإتحاد الأوروبي و للمؤسسات المالية الدولية.و بعبارة أخرى ثبت أن تونس لم يعد لها في الواقع منوالا للتنمية منذ منتصف الثمانينات وإنحصرت مهام مسؤوليها الإقتصاديين و السياسيين في إدارة الأزمات الإقتصادية و المالية و محاولة التكيف مع إكراهات العولمة الإقتصادية غير المتكافئة.

وفي هذا الجزء الثاني من المقال، سنتطرق للعوامل والتأثيرات والمصالح الأجنبية المؤثرة سلبا على المسيرة التنموية التونسية خلال العقود الثلاثة الماضية بفعل سعيها المحموم لتوجيه السياسة الاقتصادية التونسية نحو الانخراط القصري في منظومة العولمة والتبادل الحر والحال أن تونس غير قادرة على الاستفادة من الأسواق العالمية بسبب فقدانها لمنظومة انتاجية صناعية أو زراعية أو خدميّة عصرية ذات قدرة تنافسيّة عالية على غرار البلدان الصاعدة.

ولعلّ المأخذ الرئيسي الممكن توجيهه للطبقة السياسية الحاكمة بتونس قبل الثورة وبعدها وكذلك لجانب كبير من الخبراء الاقتصاديين المؤثرين في التوجهات الاقتصادية لتونس، هو تجاهلهم أو عدم إدراكهم للمخاطر الناجمة عن الخضوع للضغوط والمصالح الخارجية في تحديد الخيارات الاقتصادية الكبرى وما يتصل بها من توجهات على الصعيد الدبلوماسي.

وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى خضوع الاقتصاد التونسي مجددا بعد الثورة إلى «البرامج الاصلاحية» لصندوق النقد الدولي الذي يعمل وفق قواعد عمل تحدّدها المراكز و القوى المالية والمجموعات الاقتصادية والصناعية الكبرى العابرة للقارات، والمهيمنة تقليديا على الأسواق التجارية و المالية الدولية، عبر آليات وأطر معينة، وخاصة منها مجموعة السبعة، ومنظمة التجارة العالمية، والاتحاد الأوروبي وغيرها، علما أن هذه الجهات تسعى جاهدة لتأبيد سيطرتها الاقتصادية العالمية وتحكمها في الأسواق وفي السياسات الاقتصادية للدول الأخرى للحيلولة دون تطورها وتحولها إلى بلدان منافسة كما هو الشأن بالنسبة للدول الصاعدة.

الدور الاقتصادي المتدني لتونس على الصعيد العالمي

ولتحقيق هذا الغرض والحفاظ على الهيمنة الاقتصادية الغريبة على العالم، تسعى القوى الصناعية العظمي إلى إقرار توزيع غير معلن و غير عادل للأدوار الاقتصادية بين دول العالم، وتظلّ الدول المتخلفة وفق هذا التوزيع، ومن ضمنها تونس، مختصة في الأنشطة والصناعات البدائية ذات القيمة المضافة المتدنية والمعتمدة على العمالة غير المختصة وقليلة التكلفة. كما تحرص الأطراف المهيمنة لإبقاء الدول المتخلفة كأسواق مفتوحة أمامها غبر آلية الشراكة والتبادل الحر التي تسمح أيضا لرؤوس الأموال والمستثمرين الغربيين بحرية النفاذ لكافة الأنشطة الانتاجية والخدمية والفلاحية وكذلك إحتكار بعض القطاعات الحيوية بالنسبة لها وخاصة منها استغلال النفط ومصادر الطاقة والثروات الطبيعية في العالم وهذا ما يفسر السعي المحموم الذي يبديه الاتحاد الأوروبي لتسريع عملية توسيع منطقة التجارة الحرّة مع تونس وإستعجال هذه الخطوة بإبرام إتفاقية التبادل الحر الشاملة والعمّقة في أقرب الآجال، وذلك بقطع النظر عن الأوضاع الاقتصادية الهشّة لتونس التي لا تؤهلها للإستفادة من هذه الشراكة غير المتكافئة.

ويجدر التذكير في هذا الصدد، بالبيان الصادر مؤخرا عن الحكومة التونسية حول المنوال التنموي المزمع إقراره والذي لا يختلف عن التوجهات الاقتصادية للنظام السابق والتي وقع تجديد العمل بها بعد الثورة ومنها خاصة مواصلة التقيّد بالاتفاقيات المبرمة مع الاتحاد الأوروبي وما يترتّب عن ذلك من التوسع في سياسة المديونية والاستمرار في سياسة الاندماج في العولمة التجارية.

ويُستشف من ذلك أن الحكومة تعتزم المضي في ذات الخيارات الإقتصادية الإنفتاحية المستمرة بأشكال مختلفة منذ مطلع السبعينات دون إخضاعها لتقييم للوقوف على حصيلتها الجملية السلبية ودون التفكير في مراجعتها مراعاة للتحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى التي يفترض أن تدفع المسؤولين التونسيين لتصويب أخطاء الماضي والاستفادة من التجارب التنموية الناجحة للبلدان الصاعدة.

منظومة اقتصاد السوق وصلت إلى طريق مسدود وتشرف على نهايتها

ومن ضمن التحولات التي يفترض أن تراعيها الطبقة الحاكمة في تونس وصول منظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر- وهي ليست منوالا للتنمية بل وسيلة لتكريس الهيمنة الإقتصادية الغربية – إلى شبه طريق مسدود منذ إندلاع الأزمة الاقتصادية الأخيرة بالولايات المتحدة وإمتدادها إلى أوروبا منذ 2008، واستفحالها إلى درجة بروز مؤشرات عن تهديد الكيان الأوروبي ومنطقة اليورو خاصة بعد أن لوّحت بعض الدول بإمكانية مغادرة الاتحاد أو مراجعة علاقاتها به ومنها بريطانيا ـ التي تستعد لتنظيم استفتاء حول عضويتها بالاتحاد ـ وكذلك اليونان بسبب أزمة المديونية الخانقة التي تواجهها.

كما أن إستفحال الأزمة الإقتصادية بتونس و تفاقم مديونيتها الخارجية إلى مستويات خطيرة وغير مسبوقة، يفترض أن يدفع المسؤولين التونسيين إلى مراجعة جذرية في التوجهات الكبرى و مزيد التريث قبل ربط مصير تونس الاقتصادي والسياسي بالكيان الأوروبي الذي يواجه أزمة وجوديّة حقيقية ذات صلة مباشرة بالأزمة الاقتصادية المستفحلة وبأزمة منظومة العولمة الاقتصادية المحتضرة إلى درجة دفعت بعض الاقتصاديين الغربيين بالتنبُئ بقرب إنتهاءها وعودة الحمائية الاقتصادية والتقوقع الاقتصادي الغربي داخل الحدود الوطنية خاصة بعد فقدان الدول الغربية لهيمنتها الاقتصادية المطلقة على العالم لفائدة بعض البلدان الصاعدة وخاصة منها الصين الشعبية. ويجدر التوقف عند التجربة الصينية التي كانت الأسرع ضمن الدول الصاعدة في توفير الظروف الملائمة لإلتحاقها بركب الدول الصناعية الكبرى والتفوّق عليها بالإرتقاء إلى مرتبة أول قوّة تجارية واقتصادية مهيمنة على المعاملات والمبادلات الاقتصادية في العالم.

ومع ذلك، فإن الصين الشعبية كانت في مرحلة غير بعيدة وتحديدا مطلع الثمانينات تشبه البلدان المتخلفة اقتصاديا من حيث مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي الذي لم يكن يتعدّى 5٪ ليقفز إلى 17٪ خلال ثلاثة عقود فقط وكذلك الشأن بالنسبة لصادراتها التي بلغت سنة 2012 أكثر من 2000 مليار دولار وقد لعبت الدولة الصينية دورا أساسيا في توفير الظروف الملائمة لتحقيق هذا النجاح من خلال حصر الامتيازات الممنوحة للأجانب فقط لفائدة الاستثمارات ذات القيمة المضافة العالية واستغلالها لتطوير تقنيات ومنظومات إنتاجية وسلع صناعية صينية منافسة للسلع الغربية في الأسواق العالمية.

وهكذا تجنبت الصين الوقوع في الأخطاء القاتلة لأغلب بلدان العالم الثالث، ومن بينها تونس، التي رضخت للتوزيع غير العادل للأدوار الاقتصادية في العالم مكتفية بأن تكون خزّانا للعمالة الرخيصة لفائدة الصناعيين الغربيين وسوقا مفتوحا أمام القوى المالية و الصناعية العظمي وكل ذلك بحجّة الاستفادة من الأسواق الدولية في إطار منظومة الاقتصاد العالمي المفتوح والتبادل الحر.

والملاحظ أن بروز مفهوم العولمة الاقتصادية والتجارية واقتصاد السوق يعود إلى مطلع الثمانينات تزامنا مع رئاسة الرئيس ريغن للولايات المتحدة الأمريكية ورئيس الوزراء البريطانية آنذاك مارغرات تاتشر اللذان عملا على فرض هذه النظريات الاقتصادية الليبيرالية على العالم من خلال صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية العالمية وذلك بحجّة أن الحرية الاقتصادية وحرية إنتقال السلع والإستثمارات والأموال والأشخاص هو السبيل الوحيد لضمان توزيع عادل للثروات والأنشطة الاقتصادية عبر العالم.

لكن الهدف الحقيقي لهذه النظرية كان إحتكار الأسواق العالمية وفتحها دون قيود أمام السلع الغربية والشركات من الجنسيات ذات الطاقات الانتاجية الضخمة التي تتجاوز بكثير الطاقة الإستيعابية لأسواقها المحلية. وبالتالي لم يكن من مصلحة القوى الصناعية والزراعية والمالية العظمى أن تسمح ببروز منظومات إنتاجية صناعية أو فلاحية أو خدمية منافسة لها ببلدان العالم الثالث وكانت تسعى بكافة السبل للحيلولة دون تكرار تجربة اليابان وغيرها من البلدان الصناعية الجديدة.

وللتذكير، فإن تونس كانت خلال تلك الفترة تشكو من بوادر أزمة اقتصادية وأزمة مديونية حادة أدت بها للخضوع لأول مرّة بعد الاستقلال لما يسمى ببرنامج الاصلاح الهيكلي المبرم سنة 1986 مع صندوق النقد الدولي والبنك العالمي الذي فقدت تونس بموجبه استقلالية تحديد خياراتها الاقتصادية أو تعديلها باعتبار أنه مهد لإنخراطها القصري في منظومة التبادل الحر التي تسعى لإضعاف الدور الاقتصادي للدولة لا فقط في المنظومة الانتاجية من خلال خوصصة الأنشطة الاقتصادية، بل أيضا في رسم السياسات والتوجهات الاستراتيجيّة الكبرى. كما كرّس هذا البرنامج التبعيّة المالية لتونس إزاء المديونية الخارجية والقروض المشروطة المرتبطة بإجراءات تقشفيّة صارمة وتقديم حوافز وإغراءات مبالغ فيها لصناديق الاستثمار ولرؤوس الأموال الأجنبية على حساب المستثمرين المحليين , وذلك بحجة تشجيعها على الاستثمار وبعث المشاريع بتونس لتوفير مواطن الشغل وتنمية الصادرات واستقطاب الاستثمارات ذات القيمة المضافة العالية، لكن التجربة التونسية وكذلك تجارب الدول الأخرى التي انخرطت في مثل هذه السياسات كاليونان، أظهرت محدودية نتائج هذه المقاربات في معالجة الأزمات الاقتصادية والمالية حتى في ما يتصل بإعادة التوازنات المالية الكبرى والحد من تفاقم العجز في المدفوعات العامة وهي الأهداف المعلنة التي يدعي صندوق النقد الدولي السعي لتحقيقها.

وعلى عكس ذلك فإن برامج صندوق النقد الدولي المطبقة دون تمييز على الدول دون مراعاة خصوصياتها الاقتصادية والاجتماعية, غالبا ما تؤدّي إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية وأزمة المديونية الخارجية إلى مستويات خطيرة كما هو الحال حاليا بالنسبة لليونان ولتونس التي انخرطت مجددا بعد الثورة ومنذ 2013 في برنامج اصلاح جديد أوصلها إلي حالة قريبة من الافلاس المالي والاقتصادي.

وفي المقابل، فإن البلدان التي رفضت القبول بشروط صندوق النقد الدولي، على غرار ماليزيا أثناء الأزمة الاقتصادية الآسيوية في التسعينات، هي التي نجحت في التموقع بقوة ضمن كوكبة البلدان الصاعدة المنافسة للدول الصناعية التقليدية الكبرى.

وهكذا يتضح أن مصير الدول وإستقرارها المالي والاقتصادي والاجتماعي وتحقيق نهضتها وتقدمها الاقتصادي والعلمي الحقيقي رهين حسن وسلامة استراتيجياتها وخياراتها الكبرى السياسية والاقتصادية والتنموية وحتمية اضطلاع الدولة برسم هذه السياسة والحفاظ على قدرتها على مراجعتها أو تعديلها بما يتماشى مع المصلحة العامة للبلاد كما كان ذلك الشأن بتونس خلال الآفاق العشرية للتنمية لمرحلة الستينات التي كانت ـ بشهادة كبار الاقتصاديين التونسيين ـ مرحلة البناء الحقيقية لأسس الدولة التونسية الحديثة. ومن ضمن الأركان الأساسية لهذه الحقبة استكمال مقومات السيادة الاقتصادية من خلال تأميم الأراضي الفلاحية وإحداث البنك المركزي والعملة الوطنية وكذلك الشروع في بناء نسيج صناعي وطني وقطاع عمومي منتج وتعميم التعليم والخدمات الاجتماعية وتحرير المرأة وغيرها من الاصلاحات الهيكلية الكبرى.

ولكن هذه التجربة التنموية لم تبلغ مرحلة النضج الحقيقي بسبب التخلي عنها مطلع السبعينات لفائدة التوجهات الليبرالية وما ترتّب عن ذلك من تراجع لدور الدولة الاقتصادي ولمساهمة القطاع العمومي في المنظومة الانتاجية الوطنية وهو ما يفسّر الحالة المتردية للشركات العمومية والقطاعات الاقتصادية الأخرى المستهدفة اليوم بالخوصصة في إطار البرامج والقروض المشروطة للمؤسسات المالية الدولية وأيضا علاقات الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.

وخلاصة القول إن تجربة تونس التنموية منذ الاستقلال بحاجة اليوم إلى مراجعة جذرية لكافة مراحلها وتقييم شامل لجوانبها الإيجابية والسلبية وذلك في إطار الحوار الوطني الشامل الذي وعدت به الحكومة بدعم من رئيس الجمهورية، غير أن المطلوب أن لا يكون هذا الحوار صوريا أو شكليا كما حصل في ظل الحكومة السابقة التي أفرغته من مضمونه قبل انطلاقه.

ولابد من التأكيد علي أن الحكومة الحالية ليست مسؤولة عن التردي غير المسبوق للأوضاع الاقتصادية والمالية لتونس الذي هو نتيجة تراكمات وسياسات وخيارات اقتصادية ودبلوماسية غير موفقة امتدت لثلاثة عقود مضت، لكنها ستتحمل مسؤولية مواصلة العمل بها رغم نتائجها الكارثية وهو ما يحتم مراجعتها وإعادة النظر فيها بما يتماشى مع التحولات الكبرى في موازين القوة الإقتصادية والسياسية الجديدة في العالم وبما يتوافق مع المصلحة الوطنية العليا لتونس.

تونس في 9 جويلية 2015
أحمد بن مصطفى
دبلوماسي و سفير سابق