المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

gouvernement-nidaa-essid

بقلم إسماعيل دبارة، صحافي تونسي،

لم تُخيبّ النسخة المنقحة من “التجمع الدستوري الديمقراطي” التي تحكم تونس حاليا، ظنّ كثيرين، والأشهر الخمسة الأولى من تولي “جماعة النداء” للحكم، كانت كما توقعها كل من عاين بتمعن تجربة أزيد من نصف قرن من حكم هؤلاء، ولو أنهم زوّقوا بعناية الواجهة القبيحة للبناية القديمة ببعض الوجوه التي كانت لوقت قريب تقف على مسافة منهم، من دون أي تغيير للغرف الداخلية لهذه البناية التي ترفض الانهيار.

تسير تونس الآن بأقصى سرعة إلى هاوية بلا قرار، إذ بلغت الأزمة الاقتصادية والأمنية والسياسية والاجتماعية مدى بعيدا، قد يستعصي على أي فريق حاكم ايجاد حلول ناجعة لها، ولا ندري هل انحدرت تونس في أي وقت من الاوقات إلى هذا الحد الذي تحولت فيه السياسة الخارجية إلى عبث ونزق مُدهشين، وتحول فيها التعليم إلى حلبة صراع أهوج بين أطراف سياسية ونقابية، وصار أمن المواطن واستقراره رهين مزاج هذا الطرف أو ذاك، ولا ندري هل بدت على ملامح التونسيين سابقا مسحة من الحزن والاحباط وغياب الثقة كالتي تبدو الآن جلية واضحة لا تخطئها العين؟

من اليسير ونحن نتابع “جماعة النداء” يتخبطون في الوحل، بعد الوعود الهائلة التي قطعوها، أن نقول بشماتة، إن هؤلاء هم خيار الشعب وارادته الحرة، وما علينا سوى الانتظار لخمس سنوات حتى يشرب الشعب نخب خياره لآخر رشفة، ونتفرغ حينها إلى البحث عن بديل أوفر حظا في معالجة حال دنيانا.

لكن من الصعب على من يحمل في عروقه انتماء لا يفترُ الى تونس الوطن، أن يتعامل مع هذا الوضع الكارثي بمنظور الشماتة والنكاية وتسجيل النقاط، لأن ثورة السابع عشر من ديسمبر، وما تلاها من أحداث جسام، علمتنا – ونحن من تعودنا القاء التهم كافة على رأس النظام- أنّ اشكالية التغيير مازالت تؤرق العالم بأسره، نظرا لصعوبة التغيير المنشود لدى كل مجتمع، وتداخل العناصر المؤثر فيه، واختلاف أحلامنا وأمنياتنا مع ما نملك من وسائل متاحة على أرض الواقع.

المأزق التونسي الذي عشناه برحيل زين العابدين بن علي، ثم العودة السريعة لأركان حكمه للتسيّد من جديد، بذات الوجوه والممارسات والثقافة، يحثنا على مضاعفة الجهد لفهم اشكالية التغيير التي قد نتفق الآن على أنها تتجاوز اسقاط حكومة أو ترحيل رئيس أو سجن عصابة فاسدة.

الخروج من المأزق التونسي يقتضي تشخيصا يتجاوز صب اللعنات على “النظام” le système الذي سنوضح لاحقا أنه لا يعدو أن يكون عنصرا وحيدا من مجموعة عناصر مكونة لهذا المأزق، والذي تحتاج فيه الدولة التونسية إلى تغيير شامل وجامع لكافة عناصر هذا الكيان (entité) الذي نروم تغييره.

بون شاسع بين “النظام” الذي عادة ما يحظى بالنقد وتُختزل فيه كافة العيوب والمساوئ، وبين الكيان (entité) الذي يحتل فيه النظام مرتبة القيادة، والذي رغم أهميته (اي النظام)، فإنه سيظل دوما عاجزا قاصرا، طالما أن بقية مكونات الكيان تستقر في مواقع متنافرة تجاه هذا “النظام” le système.

لنتفق أولا أنّ الكيان التونسي المراد تغييره يتكون من 5 عناصر أساسية وفاعلة ومتشابكة، لا ندّعي أنها الوحيدة، ولكنها بمثابة الأوتاد التي يمكن بوجودها الحديث عن “كيان”.

هذه العناصر بدون ترتيب هي:

أولا: المجال أو الحيّز الذي يمارس فيه الكيان الذي ننتمي اليه ونروم تغييره، نشاطه وتمتد إليه تأثيراته إرسالاً واستقبالاً على مدار الزمن.
ثانيا: الثروات المادية المتاحة للكيان.
ثالثا: الثروة البشرية التي يضمها الكيان، وصفاتها الطبيعية والمكتسبة منذ وجودها.
رابعا: النظام (le système)، ونعني به تحديدا، كل ما يحكم العلاقات بين العناصر الثلاثة السابقة، ويشمل القوانين واللوائح والاتفاقيات والأعراف، وكل ما يحدد طبيعة ومسار العلاقات بين تلك العناصر.
أما العنصر الخامس، فهو المناخ الثقافي السائد داخل الكيان، والذي تتفاعل خلاله العناصر التي سبق ذكرها، ويشمل العادات والقيم والعقائد والأيديولوجيات والأديان، والخبرات المتراكمة، والميراث التاريخي المتراكم.

تتعامل المقاربة “المتأدلجة” للتغيير مع العناصر الخمسة التي تشكل الكيان بآلية تضخيم عنصر على حساب العناصر الباقية، فالغالبية مثلا، تعطي للنظام المكانة الأبرز عندما يتعلق الامر بفعل التغيير، فيما يعطي الفلاسفة والتنويريون العنصر الخامس (الثقافي) المكانة الأبرز والأهم، بينما يُضخّم الرفاق الماركسيون العنصر الثاني (الثروات ووسائل الانتاج) ويجعلونه رئيسًا ويمنحون له شرف “البنية التحتية”، التي تؤثر جذرياً فيما يعلوها من بُنى، حسب تفسيرهم  المادي أو الاقتصادي للتاريخ.

وقد تكون المقاربة المتأدلجة صحيحة لو عالجنا الاشكالية من منظور حجم تأثير بعض العناصر على حساب أخرى، لكن من منظور التأثير والتأثر، فإن كافة العناصر التي يتكون منها الكيان المراد تغييره، تبدو متساوية، وتعمل فيما بينها بشكل متكامل ومتداخل وترتبط فيما بينها بعلاقات سببية معقّدة، ولا يملك اي عنصر القدرة على تشكيل الكيان بمفرده، أي أننا ببساطة، ولو توفرت الارادة لتغيير أحد العناصر آنفة الذكر، منفردا، فإن حجم التأثير في الكيان سيكون محدودا للغاية وإن كنا لا ننفي حدوث التأثير ذاته في بقية العناصر الاربعة.

يمكن أن نسوق أمثلة كثيرة، فالتغيير الحاصل مثلا في كيانات تملك النفط والثروات الباطنية، لا يقارن بالتغيير الحاصل في كيانات تشكو فقرا من جهة الثروات الطبيعية، أو ضيق المساحة، فاليابان مثلا، يمثل كيانا مختلفا جذريا عن المملكة العربية السعودية، رغم الفوارق، والسبب أن العناصر الاربعة الاخرى تعمل بكفاءة قلّصت كثيرا من أهمية عنصر الثروات المادية، في حين تتخبط العناصر المكونة للكيان السعودي – رغم الثروات الهائلة – وتتنافر بشكل أنتج لنا مملكة مفارقة للمكان والزمان.

لنأتي الآن إلى عنصر “النظام” والذي يتضخّم في ثقافتنا كثيرا حتى أننا نُحيل اليه كافة السلبيات أو الايجابيات، فنعتقد مثلا أنّ الولايات المتحدة الأميركية هي بتلك القوة، نتيجة نظام سياسي متقدم وقوي وعصري، ونعتقد أنّ تونس التي نالت استقلالها سنوات قبل استقلال بعض “النمور الآسيوية” وظلت تنتمي بلا فخر إلى دول العالم المتخلّف، هي بذلك الضعف نتيجة نظامي بورقيبة وبن علي.

إنّ عنصر النظام داخل الكيان، يعتبر عاملا محددا ومصيريا لشكل العلاقات القائمة في الكيان، أي انه في مرتبة القيادة، لكنه في الحقيقة، وليد تفاعل العناصر الأربعة الأخرى، وهو الأكثر سرعة للتجاوب مع التغيير في العادة، سواء كان ذلك التغيير نتيجة ضغوط من العناصر الأربعة الأخرى، أو نتيجة ضغوط من خارج الكيان نفسه.

وبحكم التجارب المتاحة لنا، يبدو تغيير النظام نتيجة ضغوط منبثقة عن العناصر المشكلة للكيان، تغييرا أكثر نجاعة من أي تغيير آخر لا تتدخل فيه العناصر المذكورة، وحتى نتدرج من النظري إلى العملي، نكتفي بادراج مثال العراق، الذي تغيّر نظامه بفعل قوة خارجية، دون أن يكون لبقية لعناصر المكونة للكيان العراقي اي دخل يذكر في التغيير، فكانت النتيجة عكسية ومميتة.
والتغيير الحاصل بفعل نخبة حاكمة فاسدة، أو عسكرية، تطيح بنظام وتستورد آخر، يكون هو الآخر متنافرا بشدة مع العناصر المكونة للكيان، والذي ستكون نتيجته الحتمية السير نحو الاحتقان ومن ثمة الانفجار.

ودائما على المستوى العملي، نعتقد أنّ تونس التي تترنح حاليا، تبدو كيانا بصدد استيراد نظام سياسي نخاله مثاليا، وهو النظام الديمقراطي بنسخته الليبيرالية، وتعتقد النخب الآن أن تطبيقه كفيل بتغيير تونس نحو الأفضل، وحل الكثير من المشكلات المتوارثة منذ عقود بسبب غياب “النظام الديمقراطي”، والحال أنّ استيراد هذا النظام يتم على يد جماعة هي محور تنافر سابق مع العناصر التي يتشكل منها الكيان التونسي، والمصير الأوفر حظا لهذه التجربة، هو عدم فاعلية النظام الجديد، أو تعطله وهو قيد الاستيراد، أو تفريغه من مضمونه، وتطبيقه بطريقة تؤدي إلى بقاء الحال على ما هو عليه، خاصة وأن المناخ الثقافي (العنصر الخامس) مازال قائما، بلا تغيرات جوهرية تذكر.

استنادا إلى ما سبق، يمكن أن نحيل بقاء الوضع على ما هو عليه في تونس، أو انحداره إلى الأسوأ بعد اربع سنوات من تغيير “النظام”، ثم العودة اليه سريعا، إلى تمسّك عناصر الكيان التونسي الاربعة بالنظام القديم، وانسجامها معه، أو لنقل عدم وجود أهلية لديها لمجاراة النسق السريع للتغير الذي حصل في عنصر النظام في العام 2011، فتحركت العناصر الباقية سريعا لتعيد الأمور إلى نصابها أملا في تحقيق أكبر قدر من الانسجام داخل الكيان، ومنع التنافر الذي يؤدي الى الانفجار.

ربما تنسف القراءة أعلاه، أي أمل في التغيير، لكن ذلك غير صحيح، فنحن لا نقول باستحالة التغيير في الكيان ككل، ولكن التغيير يجب أن يشمل العناصر الخمسة جميعاً، بعد أن تبين لنا أنه من السذاجة والعبث ان يطال التغيير عنصرا وحيدا ويهمل البقية.