المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

Tendresse-pour-Leila-ben-ali-Trabelsi-et-Z.A-Ben-Ali-Juin2015

مع الأسف، كثيرون أصبحوا اليوم، عن حسن أو حتى عن سوء نية، يتساءلون، وأحيانا يؤكدون أن حالنا كان أفضل زمن بن علي والديكتاتورية خاصة وقت الأزمات الحادة كحدوث هجمات إرهابية. 

في الواقع هذا السؤال هو مغالطة كبرى ومؤسف حقاً أن يسوق البعض إلى أن الشعب التونسي “ندم” على هذه الثورة وذلك لسبب بسيط هو أن الثورة لم تكن خيارا حتى نندم عليه بل أن انهيار نظام بن علي كان نتيجة منطقية وحتمية لفساده وسياساته ولخياراته الفاشلة وهو انهيار ما كان يمكن تفاديه وكان سيأتي لا محالة بل إنه كلما تأخر ذلك الانهيار كان سيكون أشد وطأة وخطورة على البلاد. المنظومة التي وضعها نظام الاستبداد هي التي أدت إلى فشله والتي نتحمل تبعاتها إلى اليوم لأنها تركت البلاد دون مناعة ودون دفاعات قوية أمام الأزمات والمخاطر بكل أنواعها.

لكن رغم ذلك دعنا نطرح هذا الموضوع بهدوء وموضوعية ونتساءل إن كان وضع التونسيين كان فعلا أفضل في السابق؟ جل ندم هؤلاء المتأسفين مرده أساسا الوضع الأمني الهش والوضع الاقتصادي المتردي الذي يعتبرون أنه كان أفضل بكثير قبل الثورة. دعنا إذن نتناول الموضوع أساسا في جانبه الاقتصادي ثم الأمني. 

الجانب الاقتصادي

فيما يخص الجانب الاقتصادي، فإن الانهيار بدأ فعليا في عهد بن علي بسبب منوال التنمية المتبع والذي بدأ يترهل خاصة مع استفحال درجات الفساد والعفن في هذا الاقتصاد مما جعله عاجزا عن مجابهة تبعات الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت سنة 2008 فجاءت أحداث الحوض المنجمي لتعبر عن ذلك ثم طبعا الثورة نفسها بعد ذلك فكانت مهمة حكومات ما بعد الثورة إيقاف هذا الانهيار لكنها فشلت في ذلك، بسبب قلة الكفاءة، لكن أيضاً بسبب قوة الانحدار التي ما كان يمكن التصدي لها بسهولة. 

كلنا يتذكر كيف تغلغل سرطان الطرابلسية في نسيج الاقتصاد فأغرقه في الفساد وشله حتى عزف أصحاب رؤوس الأموال، الكبيرة والصغيرة، عن الاستثمار وخلق مواطن الشغل خوفا من طمع هذه العائلات وجشعها الذي لا ينتهي. وكثيرون منا يعرف عدد القوانين التي سنها النظام السابق لتسهيل سيطرة هذه العائلات وعائلات أخرى محيطة بها على قطاعات عديدة في الاقتصاد ضمانا لمصالحها الذاتية بقطع النظر عن مصلحة البلاد التي تضررت كثيرة من غياب المنافسة الشريفة وندرة المبادرات الاستثمارية الخالقة للثروة والاقتصار على اقتصاد ريعي عاجز عن توفير نسب نمو تخلق مواطن الشغل وتقضي على البطالة. 

الجانب الأمني والخطر الإرهابي

أما أمنيا، فإن الإرهاب انطلق منذ أيام بن علي و”أحداث سليمان” خير دليل على ذلك وهي كانت إيذانا ببدء حقبة جديدة بدأ التحضير لها في المشرق منذ سنوات (بما في ذلك العملية جربة الإرهابية سنة 2001 التي خططت لها القاعدة وأمرت بتنفيذها).

 واليوم هناك تطورات كبيرة على الصعيد الإقليمي، فالجارة ليبيا منهارة تماماً إذ أصبحت سوق سلاح مفتوحة وفيها معسكرات تدريب كثيرة وميليشيات عديدة يصعب التحكم فيها، وهذا لا يقارن البتة مع ما حصل في الجزائر في فترة التسعينات لأن الدولة وقتها كانت قائمة وجيشها موجود وقوي. هذا إلى جانب الحروب في كل من مالي واليمن وسوريا بالإضافة لعراق والصعود الصاروخي لداعش الذي لم يعد مجرد تنظيم إرهابي بل هو دولة قائمة الذات لها قدرات تمويل كبيرة ووسائل استقطاب مهولة تستعمل فيها أحدث وسائل الاتصال التي لم تكن موجودة منذ بضعة سنوات …

وبالتالي حتى لو بقي بن علي فلن نكون في مأمن من الإرهاب اليوم بل بالعكس فإن الالتفاف الشعبي ضد الإرهاب لن يكن بالقوة التي نراها اليوم ولكانت  نظرية المؤامرة ستلقى رواجا كبيرا بسبب الشكوك وانعدام الثقة في ذلك النظام الفاسد مما يجعل المجتمع أكثر عرضة لتغلغل سرطان التطرف فيه وبالتالي يجعل البلاد مكشوفة أكثر للإرهاب وأقل قدرة على مقاومته.

أيضاً جزء مما يحدث اليوم هو نتيجة لتراكمات سابقة وأخطاء إستراتيجية كبيرة في التعامل مع هذا الورم الذي بدأ يكبر ويترعرع تدريجيا لكن بثبات. فعقيدة الإرهابيين تكونت على مر كل هذه السنين واليوم بلغت مرحلة النضج في حين أن نظام بن علي تعامل معها فقط أمنيا ففشل في إيقاف تطورها بل ساعدها على ذلك.

فنظام التعليم الفاشل وسياسة الانغلاق والإقصاء والتفرد بالرأي وقمع الحريات أنتجت تصحرا ثقافيا وفكريا ودرجة متدنية جداً من الوعي السياسي جعلت أعدادا كبيرة من الشباب التونسي العاطل عن العمل والفاقد للأمل لقمة سهلة جداً لغسيل الدماغ والاستقطاب أي كان كالوعاء الفارغ ينتظر فقط من يملؤه تطرفا وحقدا وعنفا. هذا إلى جانب أن غياب العدل والفساد وتجبر وظلم السلطة والعائلات المحيطة بها يعد هو نفسه وقودا هاما لتغذية التطرف والشعور بالحقد حتى لدى المتعلمين وغير الفقراء. 
 
أيضاً حلول نظام بن علي الأمنية، التي يسوق لها بعض المفلسين اليوم، كانت سببا رئيسيا في انتشار الفكر المتطرف بعد الثورة. ففترة التسعينات شهدت انضمام عشرات التونسيين للفكر الجهادي العنيف والقاعدة أساسا وتشبعوا بهذا الفكر التكفيري وأصبح بعضهم من القيادات الميدانية واكتسبوا خبرة قتالية هامة حتى وقع اعتقال الكثير منهم بعد اجتياح أفغانستان وتسليمهم للسلطات التونسية. هذا تزامن مع تطبيق نظام بن علي لقانون الإرهاب 2003 واعتقاله بطريقة عشوائية لمئات الشباب الطائش والذي بدأ يتحسس طريقه نحو التطرف فمثل السجن مكاناً ممتازا ليلتقوا مع رموز القاعدة القادمين من أفغانستان (أبوعياض مثلا والكثير من الأسماء التي نسمع عنها اليوم من قيادات أنصار الشريعة) وليتتلمذوا على أيديهم ويصبحوا قنابل موقوتة نعاني تبعاتها اليوم. 

صحيح أن الترويكا تتحمل جزءا من المسؤولية خاصة على مستوى التساهل في التعامل مع الإرهابيين وتسهيل تحولهم إلى سوريا وتسامحها المريب مع الخطاب التكفيري المتطرف ومع جلب رموزه من خارج البلاد لبث الفتنة فيها، لكن الحلول الأمنية المفلسة بالإضافة للتصحر الثقافي الذي خلفه بن علي كان وراء نجاح دمغجة الشبان وغسل دماغهم بتلك السهولة التي جعلت المقاتلين التونسيين في صفوف داعش اليوم من أكثر الجنسيات عددا بعد السعوديين وأقل بكثير من المصريين مثلا رغم أنهم مروا بتجربة شبيهة بتجربتنا، ورغم قربهم من العراق وسوريا، ورغم أن عدد سكان مصر هو أضعاف سكان تونس.

أخيرا لا يجب أن ننسى كيف أن نظام بن علي كان يستبله التونسيين بسخافات مذلة، كالرقم 7 واللون البنفسجي وبصوره العملاقة التي كانت تملأ الشوارع. فنظام بائس يستبله شعبه بتلك الطريقة لا يمكن إلا أن ينتج شعبا لا يملك المناعة الكافية ضد الأزمات الاقتصادية وضد الإرهاب وهذا ما نعاني منه اليوم.

خلاصة القول، قد يكون حالنا اليوم أسوأ من حالنا قبل سنة 2011 لكن أسباب ذلك تعود أساسا لنظام بن علي وسياساته الفاشلة على كل الأصعدة تقريبا وإلى الدمار الذي أحدثه في المجتمع والدفاعات الهشة التي تركه عليها. فالمطلوب اليوم إذن هو ضخ دماء جديدة وأساليب جديدة وليس تمني أماني بائسة والتحسر على أيام لا يمكن إلا أن نخجل منها إن كنا نطمح فعلا إلى حياة أفضل.

د. فراس جبلون