المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

Police-Palais-de-Justice

بقلم: شكري بن عيسى (*)

كان منتظرا بعد كم الخطاب التحريضي تحت قبة البرلمان من عديد نواب الرباعي الحاكم ومن رئيس الحكومة الذي صبغ خطابه في جلسة يوم 5 جوان بالاتهامات والتحذيرات والوعيد والتهديد الصريح، وبعد الشيطنة الإعلامية التي قادتها اذاعات وفضائيات مناوئة لحملة “وينو البترول”، والضغوط الرهيبة المعلنة من بعض الدول والمناهضة القوية من عديد رجال الاعمال، -كان منتظرا- أن يتم الانتقال إلى التنفيذ واستعراض القوة من الداخلية واستعادة الممارسات النوفمبرية التي وصلت مداها عقب انطلاق الثورة في 17 ديسمبر وتجلت عبر عديد المحطات في سنة 2011 وعدة مواعيد في سنوات 2012 و2013 وصولا إلى 2015.

كان منتظرا ذلك خاصة بعد الفشل الكبير الذي تعيشه حكومة الصيد في معالجة جل الملفات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والسياسية، وارتفاع درجة الاحتقان الاجتماعي في عديد الجهات خاصة في الجنوب الغربي، وتصاعد التوتر في عديد القطاعات الحيوية مثل التعليم الابتدائي و”الستاغ” والسكك الحديدية، دون نسيان قطاع الفسفاط الذي يعاني انسدادا عميقا برغم عودة الإنتاج بشكل متعثر.

لست من المشاركين في حملة “وينو البترول” وفعالياتها الاحتجاجية برغم تبنيَّ اغلب مطالبها في السيادة على الثروات الطبيعية والشفافية والحوكمة الرشيدة ومحاسبة الفساد وبقية الأهداف المشروعة الأخرى، ولكن عدة تحفظات حول قيادة التحركات الميدانية الإعلامية والاتصالية والخطاب وافتقاد أفق واضح للحملة جعلني لا أشارك فيها، ولكني نزلت يوم السبت إلى شارع بورقيبة بصفتي المواطنية وأيضاً الإعلامية للمواكبة والتغطية والتحليل، وكنت جالسا بمقهى “الشاف” قرب نزل “الهناء الدولي” لما هاجم البوليس المواطنين السلميين الذين كانوا يتوافدون للمشاركة في الوقفة القانونية مباشرة، وكنت من بين الضحايا بعد التقاطي لصورة ركل البوليس لاحد المحتجين والقائه أرضا، فتم اختطاف “الايباد” من يدي واعتقالي واقتيادي بالقوة والضرب للحجز.

وقفة قانونية واستدراج ثابت

نزلت إلى شارع بورقيبة قبل ثلاث ساعات من انطلاق الوقفة الاحتجاجية المبرمجة على الساعة الرابعة، ومنذ وصولي وقفت على حجم الترسانة الأمنية المنتشرة واحتلال البوليس لمدارج المسرح البلدي ما دفعني لمهاتفة احد الأصدقاء من منظمي التظاهرة للاستفسار حول قانونيتها خاصة وان كل المؤشرات تصب في اتجاه قمعها، فأكد تقدم المنظمين باعلام الداخلية في الآجال الإجرائية (أي قبل 72 ساعة) التي لم تعترض ما يجعل الأمر مطابقا للقانون عدد 4 لسنة 1969 المتعلق بالمواكب والتظاهرات، ثم انتقلت إلى صفحة الداخلية على شبكة التواصل الاجتماعي “فايسبوك” لمعرفة ان كانت الداخلية أصدرت بيانا في آخر اللحظات للاعتراض ولكن لا شيء نشر في الصدد.

الهجوم على الوافدين لشارع بورقيبة انطلق مباشرة بعد الساعة الثالثة بعد الزوال واعتمد القوة والعنف والقمع المباشر، إذ انتشر البوليس بالزي النظامي والمدني والملثمين مدججا بكل الوسائل والهراوات وراميات الغاز والدراجات النارية، ومر مباشرة إلى الزجر والاهانات والدفع والركل في حركة “متناسقة” لارعاب المتظاهرين الوافدين دون توضيح أو اعلام بقرار منع التظاهر الذي لم يعلم به المعنيين وكأنه تم التخطيط لاستدراجهم للتنكيل بهم وقمعهم، فقانون التظاهر إذ يعطي إمكانية منع التظاهر للداخلية فانه يفرض اتباع إجراءات قانونية منها الإعلام والتدرج في استعمال القوة والالتزام بالقانون، ولا يسمح بحال باتباع سياسة الارعاب، ثم انه يفرض التعليل الجدي لإفساح المجال للمتظاهرين بالاعتراض لدى المحكمة الإدارية في الحين.

اعتداءات على المتظاهرين طالت الصحفيين والمارة

الحصيلة كانت اعتداءات على اغلب من تواجد في شارع بورقيبة في تلك اللحظات طالت حتى المارة والصحفيين الذين تمت هرسلتهم لابعادهم عن محيط الاعتداءات وحتى المحلات والمقاهي نالهم الاعتداء على تجهيزاتهم بعد حالة الفوضى والرعب التي تم بعثها، وحتى من أخذ هاتفه لتوثيق الاعتداءات فتم تعنيفه وافتكاك جهاز التصوير واعتقاله واحتجازه، وقد وصل عدد المحتجزين إلى قرابة الستين شخصا بين شباب ورجال ونساء.

ممارسة غائرة في القمع، وتحاوزات قانونية صارخة، وانتهاكات متعددة لحقوق الإنسان، وعودة من الباب الواسع للقبضة البوليسية، ست ساعات كاملة من الاحتجاز في منطقة باب بحر، وافتكاك لهواتف الحاضرين وتفتيشها في خرق جليّ لحق حماية المعطيات الشخصية والبعض تم محو كل الصور والصفحات المكتوبة ومنهم محدثكم، وفرض عدم التدخين والمنع حتى من الكلام ومن قضاء الحاجة البشرية للبعض وحتى شرب الماء، وممارسة إرهاب نفسي مقيت، في الوقت الذي نشاهد فيه على الحائط معلقتين الأولى بها قَسَم الأمني على احترام القانون الذي غاب والثانية بها “حقوق المحتجزين” من قرينة البراءة والإعلام بموجب الاحتجاز واعلام أهل المحتجز التي تم دوسها بفضاضة.

لم تثرني الحقيقة الانتهاكات الحقوقية ودوس القانون بقدر ما اثارني الشعور الحاقد والكره الذي أظهره من هم مأتمنون على إنفاذ القانون، فافتقاد الشعور الانساني من هؤلاء حقيقة رهيب. احد رجال البوليس الذي عنّف احد الشابات تعرَّفت عليه واعترف أمامنا بذلك دون خجل، معتبرا أن ذلك يدخل ضمن مهامه، رجل الأمن هذا وقرابة الستين شخصا المحتجزين عاين الأمر لاستعراض بطشه واستهتاره بالقانون لما دخل مكان الاحتجاز أطلق سب جلالة بكل فضاضة وبأعلى الصوت.

من الساعة الثالثة والنصف إلى الساعة التاسعة والنصف تنكيل واضح قبل أن يتم إطلاق سراح الاغلبية وإرجاع المحجوزات، ليعود قرابة الستين شخصا إلى منازلهم ويقفوا على حالة الاضطراب بين الأهل وفي بعض العائلات الارتباك عطّل المراجعة والمذاكرة للاطفال الذين يجتازون الباكالوريا، والبعض وصل المنزل والجروح وآثار الضرب على جسمه والبعض الآخر ثيابه ممزقة وثمة من عاد حافي القدمين، ومنهم من لم يعد للعائلة لانقطاع وسائل النقل بعد إطلاق سراحه في وقت متأخر.

الأفق المسدود!

البعض سيرفع شكاوى لوجود آثار الاعتداءات على بدنه، ولوجود أدلة ثابتة، والبعض عاد محموما، والبعض فرحا للافراج عنه المهم أن لم يقع ايقافة أو ضربه، بعض الأحزاب نددت والبعض الآخر عمت أعينهم عن الانتهاكات، ونقابة الصحفيين في بيانين منفصلين ابلغت بتتبع المعتدين من البوليس قضائيا وعلقت عملها المشترك مع وزارة الداخلية ورفعت احتجاجا ضدها على الانتهاكات ودعتها إلى فتح تحقيق في ما حصل ومحاسبة المعتدين في الوقت الذي لم تنتج كل التحقيقات العديدة السابقة أي اثر في اصلاح المنظومة الامنية او في زجر الاعتداءات التي طالت المواطنين والصحفيين الذين كان العديد منهم حرّض بشكل واضح على القمع فكان ضحية فعله.

ولا تزال احد الاذاعات التي يرأس تحريرها احد أعوان الداخلية السابقين (موزاييك) تطلق عناوين وأخبار من قبيل اعتداءات البوليس على الصحفيين دون ادنى اشارة لما نال المتظاهرين من تنكيل مكتفية بإطلاق توصيف “التفريق” عليهم!!!

كثير من الجمعيات الحقوقية وعديد الشخصيات التي عهدناها في السابق تستميت في التنديد والاستنكار والشجب دخلت في سبات عميق وكأن للقانون وجهين وميزانين، أما البعض فانبرى يتشفى ويطلب المزيد ويرفع شعارات “هيبة الدولة” و”علوية القانون” ويتغاضى عن الحق الأصيل في التعبير والتظاهر السلمي والحق الصحفي وحق المواطن في المعرفة الذي لا يحد إلا بحدود مضبوطة ولا يشرّع بحال التعذيب والاعتداءات.

والحقيقة أن الأمر في مجمله يصب في اتجاه تعطّل إصلاح الداخلية وتأزيم المناخ الاجتماعي ومزيدالاحتقان السياسي وخلق الشعور الواسع بالضيم والظلم وخلق المناخ المنتج للدوعشة ما دام العدل والقانون وحقوق الإنسان لا نفاذ لهم بعد عودة القبضة الأمنية من الباب الواسع والتي لم يسلم من ويلاتها حتى من دعمها وساندها!!

(*) قانوني وناشط حقوقي