ecole

يراهن التونسيون على التّعليم كأهمّ قطاع يعنى بتأطير الموارد البشريّة بما من شأنه أن يجعل من المتعلّم التونسي عنصرا فاعلا من أجل استثمار معارفه في تطوير مختلف القطاعات. وقد عرف قطاع التربية والتّعليم تحوّلات كبيرة منذ الإستقلال إلى يومنا هذا بخضوعه لبرامج إصلاح متعدّدة لم تنجح أغلبها في إحداث تطوّر جوهري في العمليّة التربوية. هذه الإصلاحات المسقطة جعلت القطاع يتخبط تحت تأثير تغير التجارب والمناهج الأمر الذي أثر سلبا على مستوى التلميذ التونسي وفاقمت من نسب الرسوب والإنقطاع عن الدراسة.

محاولات إصلاح ما يمكن إصلاحه من مشاكل التّعليم في تونس بقيت محدودة بعد ثورة 14 جانفي 2011. الحكومات المتعاقبة خلال السنوات الأربع الفارطة لم تول هذا القطاع ما يستحقه من اهتمام سواءا على المستوى التشريعي أو التنفيذي. تواصل العمل بالبرامج التعليمية للنظام السابق رغم ضعفها إضافة إلى انتشار العنف بين صفوف التلاميذ وتركيز المربين على المطالب بحقوقهم المادية وتدهور البنية التحتية للمؤسسات التعليمية في الجهات وبالأرياف، هي عوامل ساهمت في تراجع المنظومة التربوية في تونس مما استوجب التعجيل بالنظر في إصلاحات هيكلية ومنهجية عاجلة.

مشاكل عديدة ونتائج كارثية

أنشأت وزارة التربية التونسية سنة 1955 وأشرف عليها عدد هام من المفكرين التونسيين كالأديب محمود المسعدي والمفكر محمد الشرفي. ويؤكد المعجبون بالفكر البورقيبي أن التعليم في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة قد شهد مرحلة تأسيس نموذجية حيث تم سن قوانين تلزم الدولة باحترام الحق في التعليم وإجباريته إلى حدود سن معينة ومجانيته إضافة إلى بناء المدارس في كامل مناطق الجمهورية بما فيها المناطق النائية والأرياف.
محاولات النهوض بالتعليم وتطويره لم تصمد كثيرا أمام موجة الفساد التي نخرت كل القطاعات في عهد نظام بن علي. فالبرامج الإصلاحية المرتجلة أفرغت العملية التربوية من جوهرها وحولت المؤسسات التربوية إلى محاضن لإنتاج مئات الآلاف من الحاصلين على شهادة الباكالوريا دون تحصيل علمي مهم خصوصا مع اعتماد آلية ال25 بالمائة.

وفي تصريح لنواة أكد أستاذ التعليم الثانوي الحبيب مساهلي أن نظام التعليم الأساسي الذي رسخه بن علي في بداية التسعينات كان من أهم أسباب الفشل لأجيال متعاقبة من التلاميذ.

هذا النظام الذي يعتمد النجاح الآلي في السنوات الأولى والثالثة والخامسة إضافة إلى إلغاء إجبارية مناظرتي السنة السادسة والتاسعة ضاعف أعداد الناجحين دون حصول أغلبهم على درجة تكوين عالية. أما بالنسبة لبرامج التعليم التي تم استنساخ أغلبها من برامج اعتُمدت ببلدان أوروبية فقد تميّزت باعتمادها على كثافة المواد مقارنة بالوقت المخصص لتدريسها مما ساهم في تشتيت التركيز لدى التلميذ إضافة إلى تراجع الوقت المخصص للتطبيقي مقابل النظري.

وأضاف محدثنا أن « هذه الإشكالات تنسحب على مراحل التعليم الإعدادي والثانوي حيث يتم اعتماد آلية الإمتحان حول معلومات يجبر التلاميذ على حفظها في أغلب المواد في حين يتم التركيز في بعض المواد العلمية على الإهتمام بعدد محدود من التلاميذ المتميزين ودفع البقية إلى الإستعانة بالدروس الخصوصية ».

إهمال السلط المختصة لمسألتي التثقيف والترفيه داخل المؤسسات التربوية نتج عن تفاقم مخيف لظاهرة العنف المدرسي. وقد سجلت دراسة إحصائية أعدتها الإدارة الفرعية للحياة المدرسية بوزارة التربية حدوث 8500 حالة عنف مادي ولفظي مدرسي من طرف التلاميذ خلال الثلاثي الأول من سنة 2014 من بينها 2270 حالة عنف قامت بها تلميذات. وجاء في الدراسة أن 68 حالة عنف مادي سجلت ضد إطار التدريس و730 اعتداءا ماديا سجلت ضد إداريين. وأرجعت الدراسة أسباب هذا العنف إلى محاولات الغش في الإمتحان وتعاطي بعض التلاميذ للكحول والمخدرات والسجائر في غياب تأطير وإرشاد تربوي وعائلي ناجعين. وكانت خلية علوم الإجرام في مركز الدراسات القضائية قد كشفت مؤخرا عن وصول نسبة متعاطي المخدرات من المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بني 13 و18 سنة إلى نحو 57 بالمائة. كما أكدت إدارة الطب المدرسي في تقرير أعدته مؤخرا أن نسبة التلاميذ الذين جربوا المواد المخدرة تتوزع بين 61.1 في المائة من الذكور و40.9 بالمائة من الإناث.

ظاهرة جديدة عرفتها المدارس والمعاهد التونسي تمثلت في إقدام عدد من التلاميذ على الإنتحار في جهات داخلية أهمها القيروان التي سجت انتحار حوالي خمسة تلميذات لم تتجاوز أعمارهن ال16 سنة شنقا بسبب الظروف المعيشية المتردية. كما عرفت ولاية بنزرت مؤخرا حادثة غريبة تمثلت في نجاة ستة تلميذات من الموت بعد محاولتهن القيام بعملية انتحار جماعي بشرب مواد سامة. وكان المنتدى التونسي للحقوق الإقتصادية والإجتماعية قد أكد في تقرير أصدره مؤخرا عن محاولة 6 تلاميذ الإنتحار بإلقاء أنفسهم من الطابق العلوي في المعاهد الثانوية. واللافت أن أغلب أسباب الإنتحار في صفوف التلاميذ كان مردها غياب التأطير التربوي بمدارس ومعاهد تعاني من الحرمان من أبسط الضروريات كالماء الصالح للشراب ودورات المياه وقاعات التدريس والأكل الصحي والنقل العمومي الآمن.

كل هذه المشاكل انعكست سلبا على نتائج المؤسسات التربوية التونسية ونتج عنها حسب تصريح كاتب عام نقابة التعليم الثانوي لسعد اليعقوبي خلال ندوة صحفية انقطاع 120 ألف تلميذ عن الدراسة في السنة الدراسية 2013 2014 بزيادة عددية تقدر ب10 آلاف منقطع مقارنة بالسنة الدراسية التي سبقتها. وحمل اليعقوبي خلال هذه الندوة مسؤولية هذه المعضلة لوزارة التربية مؤكدا عدم استجابتها لمطالب النقابة في النظر في تشخيص أسباب ظاهرة الإنقطاع وإرساء حوار جاد من أجل الحد منها. غير أن تفاعل نقابات التعليم في تونس مع هذه الظواهر الخطيرة لم يتجاوز التنديد وكيل الإتهامات للوزارة التي لا تتوانى بدورها عن رد هذه الإتهامات على أصحابها دون ظهور بوادر تحرك جدي من الطرفين لوضع خطة منهجية لإصلاح هذه المشاكل وإعطاء قطاع التعليم ما يستحقه من اهتمام.

حوار الصمّ بين الوزارة والنقابة

إثر نجاح نقابة التعليم الثانوي في إمضاء اتفاقية مع وزارة التربية مؤخرا تضمن عددا من الحقوق المادية والترقيات لمنظوريها، دخلت نقابة التعليم الأساسي بدورها في مفاوضات مع الوزارة من أجل مطالب تتعلق ببعض المنح وآليات التقاعد. وأخذت مفاوضات نقابات التعليم ووزارة التربية منذ ثورة 14 جانفي 2011 منحى تصعيديا ترجم إلى تنظيم المربين لإضرابات متكررة عن التدريس وصلت إلى حد الإمتناع عن إجراء الإمتحانات مثلما حدث مؤخرا مما أنهك التلاميذ والأولياء وأثر على تركيز تلاميذ الباكالوريا خصوصا.

حالة غضب كبيرة انتابت أولياء التلاميذ الذين أثر الإضراب الأخير للأساتذة على نسق دراستهم حتى أن أحدهم اتهم خلال حوار تلفزي نقابة التعليم الثانوي بأخذ أبنائهم “كرهائن” من طرف أساتذتهم من أجل تحقيق مطالبهم المادية. هذا الغضب قوبل بتملص وزارة التربية من مسؤوليتها في هذا الخصوص حيث اعتبر وزير التربية ناجي جلول في تصريح لنواة أن :

الوزارة تقوم بمجهودات كبيرة من أجل تحويل الميزانية المخصصة لها لتعهد المدارس الريفية وتحسين ظروف الدراسة بالجهات وتطالب المربين بالإنخراط في هذا المسعى وتأجيل المطالب المادية إلى فترة لاحقة وإعطاء الأولوية لإصلاح المناهج التربوية والإحاطة النفسية والمادية بالأطفال من ذوي الحالات الإجتماعية السيئة لتجنيبهم مظاهر الإنحراف والحد من ظاهرة الإنتحار التي انتشرت مؤخرا. وزير التربية، ناجي جلول

من جهة أخرى أكد كاتب عام نقابة التعليم الثانوي لسعد اليعقوبي لنواة أنه « لا يمكن ضمان تطوير التعليم دون الاهتمام الجدي بوضعية المربي المادية والنفسية كما أن مطالب المربين مقدسة ومشروعة ولا يمكن التغاضي عنها بحجة وجود مشاكل أخرى تنهش قطاع التعليم. النقابة لديها مقترحات جدية لإصلاح أغلب مشاكل التعليم في انتظار استجابة الوزارة للقاءات وحوارات جادة وفتح أبوابها للإصغاء والتنفيذ المشترك ».

نواة تحدثت أيضا للناطق الرسمي باسم وزارة التربية مختار الخلفاوي بخصوص انعكاسات إضراب الأساتذة الأخير على مسار هذه السنة الدراسية وحول خطط الوزارة في الفترة القادمة لمجابهة المشاكل التي يعاني منها القطاع فقال :

بعد حصول الأساتذة على مطالبهم المادية وإثر التعطيل الحاصل في رزنامة التعليم الثانوي جراء الإضراب قررت وزارة التربية تقسيم المراقبة والتقييم إلى مرحلتين : المرحلة الأولى كانت قد تمت قبل الإضراب أي الثلاثية الأولى، والمرحلة الثانية سيتم خلالها دمج الثلاثيتين الثانية والثالثة معا وسيتم احتساب العدد الأفضل بالنسبة للتلاميذ الذين كانوا قد شرعوا فعلا في إجراء امتحانات الثلاثي الثاني. هذا مع إيلاء أهمية خاصة لتلاميذ الباكالوريا وعددهم 160 ألف والإحاطة بهم حتى يتجاوزوا التعطيل الحاصل وينجحوا في اجتياز المناظرة في أحسن الظروف.

وعلى المدى المتوسط والبعيد أكد مختار الخلفاوي أن « الوزارة بصدد التحضير لإطلاق الحوار الوطني حول التعليم والذي سيكون بداية من يوم 23 أفريل الجاري. هذا مع تعهد الوزارة بتنفيذ برنامج استعجالي لتعهد المدارس في المناطق الريفية والحدودية وتحسين الخدمات المدرسية في المطاعم والنظر في سبل التخفيف من البرامج التعليمية وتحسين جودتها ».

خلال ندوة صحفية عقدها يوم الثلاثاء الفارط، أكد مدير المعهد الوطني للإحصاء الهادي السعيدي أن نسبة الأمية في تونس تراجعت إلى 18.8 بالمائة سنة 2014 مقابل 23.3 بالمائة في تعداد سنة 2004. وأوضح السعيدي أعلى نسب البطالة تتركز في الشمال الغربي والوسط وتحديدا بولايتي القيروان والقصرين. ورغم تراجع نسبة الأمية في تونس فهي تبقى عالية مقارنة بالدول الغربية وببعض الدول العربية التي تؤكد بعض الإحصائيات إمكانية وصول نسب الأمية فيها إلى أعداد منخفضة جدا ومن بينها الإمارات وقطر والأردن. فهل ستكون هذه الأرقام المفزعة والتي تترجم تأخر قطاع التعليم في تونس ومعاناته من غياب الإهتمام الجاد حافزا لمسؤولي الحكومة الجديدة لإيلاء هذا القطاع ما يستحقه من أهمية، أم ستسقط الوزارة ومن ورائها نقابات التعليم في فخ الصراعات العقيمة وتكرار تجارب البرامج الهشة والمسقطة.