dette-tunisie-manif

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

الوعود التي تهاطلت على الحكومة التونسيّة عقب حادثة باردو والمسيرة الدوليّة المناهضة للإرهاب بخصوص تحويل الديون التونسيّة لدى عدد من دول الإتحاد الأوروبيّ إلى استثمارات أجنبيّة مباشرة، لم تكن بجديدة، حيث تم تداول هذا الإجراء منذ سنة 2011، وكانت المبادرة من ألمانيا خلال سنة 2012، حين وعدت أن تكون أوّل دولة أوروبيّة تشرع في هذا التمشّي لتخفيف ضغط المديونيّة التي تخنق الاقتصاد الوطنيّ.

إيطاليا، وفرنسا على لسان الرئيس فرنسوا هولاند إضافة إلى البرلمان الأوروبيّ تبدو وعودهم هذه المرّة أكثر جديّة مدفوعة بمناخ التعاطف الدوليّ مع تونس إثر عمليّة متحف باردو، ولكنّ مفهوم وآلية تحويل الديون إلى استثمارات ما يزال غامضا لدى عموم النّاس، وهو ما سنحاول توضيحه في هذا المقال إضافة إلى الارتدادات المحتملة على الاقتصاد المحليّ في حال تحوّلت تلك الوعود إلى إجراءات عمليّة.

معضلة المديونيّة التونسيّة

وصلت تونس لمرحلة خطيرة من المديونيّة التي تهدّد لا المستقبل الاقتصادي للبلاد بل واستقلاليّة القرار السياسيّ، فحجم الديون التونسيّة بلغ خلال السنوات الأربع المنقضية 25 مليار دينار لتستنزف ما يقارب ال50 % من الناتج المحليّ الخام للبلاد، نتيجة ارتفاع نفقات الاستهلاك والتصرّف التي قفزت من 4,5 مليار دينار سنة 2011 إلى 11 مليار دينار سنة 2014.

وقد كان الوقوع في دوّامة المديونية مسؤوليّة الحكومات المتتالية التي تذرّعت بتمويل المشاريع التنموية ومجابهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها البلاد. لكن بارتفاع مستواها وتراكم فوائضها، تحولت الديون (الخارجية منها بالخصوص) إلى عامل معمق للأزمة الاقتصادية، حيث يرزح الاقتصاد التونسي تحت عبء قيمة الديون ومعضلة سداد خدمتها من جهة، و انعكاسات استنزاف الموارد اللازمة لذلك من جهة أخرى.
وقد أدّت سياسات الحكومات المتعاقبة إلى الارتهان إلى مؤسّسات النقد الدوليّة والدول الكبرى التي تموّلها، الأمر الذي يهدد السيادة الوطنية ويساهم في توظيف جزء هام من المدخرات الوطنية والمحاصيل الجبائية لتسديد خدمة الدين، وهو ما يتم على حساب تمويل المشاريع التنموية والاستثمارية ، وتحسين ظروف عيش الطبقات الضعيفة.

العروض القديمة الجديدة

إثر 14 جانفي 2011، التي أثارت اهتماما دوليّا واسعا، بدا جليّا أنّ هذا التغيير السياسيّ ستكون له ارتدادات اقتصاديّة قاسية على الاقتصاد المحليّ المنهك أصلا نتيجة عقود من الخيارات الاقتصاديّة التي أثبتت عجزها إضافة إلى حالة الفساد المستشري في مختلف مؤسّسات الدولة.
الهبات والمساعدات الغربيّة والخليجيّة لم تكن لتسدّ حاجة البلاد مع تعطّل الدورة الاقتصاديّة وحالة الانكماش وتضخّم نفقات التصرف والاستهلاك ممّا دفع الحكومات المتتالية إلى التداين كحلّ وحيد لضمان السيولة اللازمة. ومع اشتداد أزمة المديونيّة التي ارتفعت بشكل قياسيّ خلال السنوات القليلة التي تلت الثورة، بدأت المفاوضات جديّة بين تونس وعدد من الدول الأوروبيّة وخصوصا ألمانيا سنة 2012 لتحويل جزء من ديون تونس إلى استثمارات أجنبيّة مباشرة لتخفيف وطأة تلك الديون على الناتج المحليّ الخام.

الدول التي مضت قدما من الاتحاد الأوروبيّ في مشروع إلغاء القروض أو تحويلها إلى استثمارات مباشرة هي كالآتي:

ألمانيا: كانت المبادرة إلى التعهّد بدراسة إمكانية التخفيف من الديون التونسيّة عبر إلغاء جزء منها أو تحويلها إلى استثمارات مباشرة خلال لقاء جمع الرئيس السابق محمد منصف المرزوقي بالمستشارة الألمانية أنجلينا ميركل سنة 2012. الوعود الألمانيّة تحوّلت إلى اتفاق في 18 جوان 2014 بين رئيس الحكومة الانتقاليّة مهدي جمعة والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على تحويل جزء من الديون المتخلدة بذمة تونس لصالح ألمانيا بقيمة 60 مليون أورو إلى مشاريع تنموية إثر لقاء جمع بينهما في العاصمة الألمانية برلين.

إيطاليا: أعلنت إيطاليا أواخر شهر مارس الفارط إثر زيارة وزير الخارجية والتعاون الدولي الايطالي باولو جانتيلونى إلى تونس عن قرارها بتحويل جزء من الديون التونسيّة بقيمة 25 مليون أورو إلى استثمارات في إطار دعمها الاقتصاديّ والأمنيّ الثنائيّ.

بلجيكا: أعلن الوزير الأول البلجيكي إيليو دي غوربو في شهر جوان الفارط أن بلجيكا قامت بتحويل مبلغ 10 مليون أورو من ديون تونس إلى استثمارات خلال لقائه برئيس الحكومة المؤقتة مهدي جمعة ببروكسال.

فرنسا: كشفت فرنسا على لسان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند خلال زيارة الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي لباريس في بداية شهر افريل الحالي عن توقيع إعلان نوايا بخصوص عزم فرنسا وتعهّدها بتحويل 60 مليون أورو من الديون التونسيّة إلى استثمارات ومشاريع تنمويّة بعد الضغط الحكوميّ من قبل رئيس الوزراء الفرنسيّ فالس على البرلمان لتسريع عملية المصادقة على هذا الإجراء.

هذا ويناقش البرلمان الأوروبيّ مسألة تحويل الديون التونسيّة إلى لدى الدول الأعضاء إلى مشاريع واستثمارات بهدف دعم الحكومة التونسيّة والتخفيف من وطأة الأزمة الاقتصاديّة في سياق حثّ باقي دول الاتحاد الأوروبي مواصلة ما بدأته ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا خلال الفترة الماضية، وقد زار وفد من البرلمان الأوروبي البلاد في إطار حملة التعاطف الدولي مع تونس إثر العملية الإرهابية في متحف باردو.

التسويق الإعلاميّ للهبّة الأوروبيّة نحو التخفيف من ضغط المديونيّة على تونس تبدو منقوصة من أهمّ عنصر، وهو توضيح مفهوم تحويل الديون إلى استثمارات وآليّة تنفيذ هذه العمليّة وارتداداتها الاقتصادية وجدواها في ظلّ ضخامة الديون التونسيّة.

كيف تتحوّل الديون إلى استثمارات؟

يتمثّل تحويل الديون إلى استثمارات في تنازل الدائنين سواءا كانوا من البنوك الحكوميّة أو الخاصّة عن جزء من الديون لفائدة طرف ثالث يكون بالأساس من المستثمرين الأجانب الذّي يقوم بدوره ببيع هذه الديون إلى البلد المدين مقابل حصص في مؤسسات محلية أو تبديلها بعملية محلية والتي تستعمل في تمويل مشروع محلي في البلد المعني.

ويدافع أنصار هذا الخيار عن وجهة نظرهم عبر الترويج بقدرة هذا التحويل على التخفيف من عبء الدين الخارجي والتقليل من العجز الداخلي خصوصا في الوضع التونسيّ حيث تستنزف الديون ما يقارب 40% من الناتج المحليّ الخام سنويّا. بالإضافة إلى ما سيتمّ ادخاره من العملة الصعبة التي يتم تحويلها سنويا بعنوان تسديد أقساط الديون الخارجيّة.
كما يعتبر أنصار هذه الآليّة أنّ تحويل جزء من الديون التونسيّة إلى استثمارات أجنبيّة مباشرة سيمكّن من دفع وتيرة الاستثمارات في البلاد والتخفيف من أزمة البطالة عبر خلق مواطن شغل جديدة وتنشيط الدورة الاقتصاديّة مع ازدياد الاستهلاك وارتفاع كتلة الأجور والحركة الاستهلاكيّة ككلّ.

المستفيد الحقيقيّ…

بعيدا عن البروباغندا الإعلاميّة التي صفّقت لهذه “المساعدات” و”الدعم” الأوروبي لتخفيف الضغط الاقتصاديّ عن تونس والتعاطف معها في حربها ضدّ الإرهاب، وجب التنبيه إلى عديد النقاط التي حجبت عن العموم حول تأثير هذه الآلية على الاقتصاد المحليّ والثمن الذّي قد تدفعه تونس مقابل هذه “المساعدة” من استقلاليتها الاقتصاديّة والسياسيّة.

في البداية لا تمثّل المبالغ التي تمّ تحويلها إلى استثمارات مباشرة سوى ما يقارب 2% من جملة الديون التونسيّة وفوائد تلك الديون، ففي حين بلغت المديونية في البلاد خلال سنة 2014 ما يفوق 25 مليار دينار تونس، فإنّ الدعم الأوروبيّ عبر هذا الإجراء لن يتجاوز 340 مليون دينار، وهو ما يعني أنّ ما يتم ترويجه من تخفيف الضغط على الموازنة العامة والحفاظ على رصيد البلاد من العملة المحليّة لا يعدو سوى أن يكون مغالطة لتجميل هذه القرارات.

النقطة الثانية البالغة الأهميّة تكمن في إن قيام تونس بتحويل دينها إلى استثمار أجنبي يؤدي إلى تفاقم معضلة التضخّم نتيجة لقيام الدولة المدينة بتسديد دينها عند شرائه بالدينار التونسيّ، وذلك عن طريق اللجوء إلى إصدار المزيد من الورقات النقديّة لتوفير الكتلة المالية اللازمة، وهو ما يمكن اعتباره إجراءا كارثيا في ظلّ افتقار البلاد إلى الموارد الجبائية و بالتالي إلى السيولة.
في نهاية المطاف فإنّ ما سيحدث هو تحويل الدين الخارجي إلى دين داخلي ممّا سيفاقم عجز الميزانيّة وتواصل الأزمة الاقتصاديّة مع ضرورة التأكيد على تراجع النمو الاقتصاديّ في البلاد خلال السنوات الأربع الأخيرة الذّي لم يحقق تقدّما سوى بنسبة 0,1% عن السنة الفارطة كدليل على حالة الانكماش وتواصل العجز.

كما أنّ مسألة الاستثمار وفقا للتشريعات الحاليّة التي تمنح امتيازات كبرى للمستثمرين الأجانب على مستوى التشغيل والحقوق الاجتماعيّة للعاملين والالتزامات الجبائيّة يطرح أكثر من تساؤل حول مردوديّة مثل هذه الخطوة وقدرتها الفعليّة على الحد من الأزمة الاقتصاديّة.

الارتدادات تتجاوز المستوى الاقتصاديّ لتشمل جانبا سياسيّا يتعلّق بسيادة القرار المحليّ، حيث ينجم في أحيان كثيرة عن تحويل الدين الخارجي إلى استثمارات أجنبيّة مباشرة عمليّة نقل ملكية الأصول المحلية ممثّلة في المؤسّسات العموميّة إلى المستثمر الأجنبي وهو ما يعني بشكل أو بآخر تقليص دور الدولة على الصعيد الاقتصاديّ وتسليم القطاعات الكبرى إلى رؤوس الأموال الأجنبيّة وسلب الدولة القدرة على تحديد الخيارات الاقتصاديّة والسياسيّة خصوصا إذا كانت تتعارض ومصلحة المستثمرين الكبار.

غضّ الطرف عن “الديون البغيضة”

الحلول التي تلجأ إليها مختلف الحكومات التونسيّة للبحث عن مخرج من الضغط الهائل الذّي تسبّبه الديون التونسيّة على النمو الاقتصاديّة يتغاضى دائما ما يصطلح بتسميته “الديون البغضية” وهي الديون التي تمّ استخدامها لأغراض شخصيّة أو عائلية في عهد بن علي. حجم هذه الديون في تونس واستخداماتها ما يزال خاضعا لتعتيم مريب من قبل المانحين و من قبل دوائر الدولة. وإن حاولت رئاسة الجمهوريّة خلال سنة 2012 الدفع نحو التدقيق في هذه القروض وإعادة جدولة الديون التونسيّة وفق ما ستسفر عنه نتائج تلك المراجعة. إلاّ أنّ المسألة برمّتها دخلت طيّ النسيان وظلّت المجموعة الوطنيّة تتحمّل أعباء الديون التي استفاد منها بن علي وحاشيته خلال العقديين الماضيين.

إنّ المسارعة إلى التصفيق لبرنامج تحويل الديون إلى استثمارات أجنبيّة في الوقت الذي تتغاضى فيه أطراف سياسيّة عديدة عن حلّ حقيقيّ قد يساهم كثيرا في تخفيف الاستنزاف الذّي يتعرّض له الاقتصاد المحليّ نتيجة أقساط تلك القروض البغيضة يدعو للاستغراب من سياسة التعنّت ورفض هؤلاء عمليّة التدقيق في تلك الديون، بالإضافة إلى رفض الجهات المانحة كشف الستار عن حجم تلك القروض واستعمالاتها. والأخطر أنّ تتم شرعنة تلك القروض وإدراجها ضمن المبالغ التي ستوجّه للاستثمارات الأجنبيّة المباشرة لتتحمّل المجموعة الوطنيّة مرّة أخرى عبئ تلك الديون سواء عند التسديد أو عند محاولة التخفيف من وطأتها.

المديونيّة التي تعتبر المعضلة الاقتصاديّة الأخطر التي تعاني منها تونس في السنوات الأخيرة تحوّلت بفعل غياب استراتيجيات واضحة واندفاع صنّاع القرار إلى الحلول السهلة والمزيد من الاقتراض إلى مدخل جديد لسلب الإرادة السياسيّة والاقتصادية للبلاد.
إنّ تواتر المشاريع المسقطة التي تشمل جميع القطاعات بدءا بالبلديات مرورا بالبنوك العموميّة ومنظومات التأمين الصحيّ والاجتماعي وصولا إلى صيغ جديدة لتعزيز تواجد رؤوس الأموال الأجنبية وفق شروط وأرضية مناسبة تلغي دور الدولة وتتجاهل الضرورات التنموية والاجتماعيّة ليست سوى محاولة للتحايل على الرفض الذّي ما زالت تبديه بعض مكوّنات المجتمع المدني وعدد من الأطياف السياسيّة والنقابيّة تجاه التسليم المطلق للشأن الاقتصاديّ للدوائر المالية الأجنبيّة.

* تم الاستناد في تحليل ارتدادات تحويل الديون إلى استثمارات أجنبية في تونس على مقالات للخبير الاقتصادي الأمريكي ألان ملتزر: أحد أكبر منتقدي سياسة صندوق النقد الدولي. عمل في وزارة الخزينة في عهد عدد من الرؤساء، بينهم جون كينيدي ورونالد ريغان، قبل أن يتفرغ للأبحاث في مؤسسة “كارنيغي مالون”.