decentralisation-tunisie-municipalites

بقلم محمد سميح الباجي عكاز،

المركزيّة، بشقيّها، المعنويّ أي سلطة اتخاذ القرار، أو الماديّ بمعنى تركّز الثروة والديناميكيّة الاقتصاديّة، هي التي طبعت تاريخ الدولة التونسيّة بعد سنة 1956. منذ البداية كانت ملامح الدولة الفتيّة قائمة على تركيز السلطة والثروة في قطب اقتصاديّ وسياسيّ يضمن بحسب رؤية القائمين حينئذ سيطرة مطلقة على مختلف الجهات وترابطا وثيقا بين العاصمة “المركز” ومختلف جهات البلاد.

المخطّطات الاقتصاديّة المتتالية أثبتت في النهاية فشلها الذريع في تحقيق العدالة الجهويّة اقتصاديّا واجتماعيّا وثقافيّا وهو ما تؤكّده مختلف الانتفاضات التي عرفتها البلاد خلال فترات متعاقبة.

اختلفت عنوانين تلك التحرّكات، لكنّ طابعها الجهويّ كان واحدا، بدءا بقفصة سنة 1977، مرورا بسليانة سنة 1990 والرديّف 2008 وبن قردان 2010 وسيدي بوزيد نهاية سنة 2010 والتي استطاعت أن تمتدّ لتصل مركز القرار السياسيّ وتعيد طرح إشكالية التخطيط المركزيّ والتنمية الجهويّة وتقسيم الأقاليم ومفهوم اللامركزيّة في التخطيط والإدارة، لتكون النتيجة تضمين هذا المفهوم والآلية في الدستور التونسيّ الجديد في الفصل الرابع عشر الذّي ينصّ على أن “تلتزم الدولة بدعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني في إطار وحدة الدولة.”

هذا الفصل، وإن جعل من اللامركزيّة آليّة عمل دستوريّة، إلاّ أنّه يضلّ مجرّد شعار في ظلّ غياب خطط تفصيليّة لكيفيّة تطبيق هذه الآليّة.

مفهوم اللامركزيّة

يمكن تعريف اللامركزيّة بإعادة توزيع للسلطات وتعديل الأدوار بين الدولة أو الأحرى الحكومة والجماعات المحليّة في مختلف جهات البلاد. إذ تقوم هذه الآليّة على نقل السلطة والمسؤولية رسميا إلى فاعلين ومؤسسات على مستوى أدنى تراتبيّا على الصعيد السياسي والإداري وذلك بعد أن تقرّ الدولة بنوع من الاستقلالية للشخصيّة القانونيّة المسؤولة في الجهات من بلديات ومجالس جهوية ومؤسسات عمومية في تسيير شؤونها الداخلية، ولكن تحت إشراف ومراقبة السلطة المركزية.

هذا النقل للصلاحيات والمسؤوليّات يهدف إلى تمكين الأقاليم من مزاولة عمل الدولة فيما يخص تنفيذ ومتابعة وتسيير الاستثمارات العمومية والخاصّة بشرط أن يكون مصحوبا بتوفير الوسائل المالية الضرورية للتنمية الجهويّة اللامركزية.

هذه الاستقلاليّة لا تعني البتّة الانفصال عن سلطة المركز السياسيّ، حيث تعمل الدولة أو الحكومة على لعب دور الرقيب والمحاسب للسلطات المحليّة كما تخضع لمختلف القوانين والسياسات العامّة للدولة خصوصا في كيفيّة إدارة الأموال العامّة من حيث التمويل والإنفاق وإعادة توزيع العائدات.

ملامح مشروع اللامركزيّة التونسيّة: الأسباب والآليّات القانونيّة

واقع الجهات بعد 55 سنة من المركزيّة المطلقة :

طوال الفترة التي تلت الاستقلال سنة 1956 اعتمدت الدولة أو السلطة المركزيّة على تقسيم جهويّ وإداريّ خاضع للحسابات السياسيّة وضرورة ضمان ارتباط مختلف الجهات بالمركز السياسيّ أين تتم صناعة القرارات السياسيّة والخيارات الاقتصادية والمخطّطات التنمويّة للبلاد كافة. وقد اعتمدت الحكومة آنذاك على سياسة تقوم على محاربة أي سلطة معنويّة أو قبليّة تهدّد ما تعتبره الوحدة الوطنيّة عبر إعادة تقسيم الجهات إلى ولايات ورسم الحدود الإداريّة. ومن ثمّ تم اعتماد الولاّة والمعتمدين والعمد الذّين عوّضوا الشيوخ سنة 1969. أمّا مجالس الولايات فيترأسّها الوالي وتضمّ أصحاب المصالح الاقتصاديّة في الجهة. وفي سنة 1989 تمّ إنشاء المجالس المحليّة والجهويّة المنتخبة والتي تضمّ رؤساء البلديّات ونوّاب الجهة في البرلمان، ولكنّها ظلّت مجرّد مجالس صوريّة لا تعبّر عن اختيارات وحاجات أهل الجهة ودون سلطات حقيقيّة، بل كانت تخضع لسلطة وإرادة الحكومة المركزيّة والحزب الحاكم في مناخ سياسيّ تميّز بسلطة الفرد والحزب الواحد طيلة ما يزيد عن نصف قرن.

الارتدادات الأبرز للمركزيّة القائمة طيلة عقود كانت على المستوى الاقتصاديّ، وتجلّت بصورة واضحة في الانتفاضات المتكرّرة التي عرفتها الجهات الداخليّة للبلاد والتي كان آخرها في سيدي بوزيد في شتاء سنة 2010. هذه التحرّكات الاحتجاجيّة كانت ردّة فعل طبيعيّة على سياسة رسميّة اعتمدت على تركيز السلطة والثروة ضمن نطاق بشريّ ومجاليّ محدود مرتبط بالمصالح السياسيّة وشبكة التعاملات الماليّة والسياسيّة.

لقد كشفت الثورة حجم الضرر الاقتصاديّ الذّي لحق بالجهات الداخليّة في البلاد بعد أن تحوّلت سياسة النظام من تكريس التفاوت الجهويّ إلى سياسة الحصر المجاليّ للاستثمارات وتوزيع عائدات الدورة الاقتصاديّة. إذ كشفت الإحصائيّات المختلفة سواء للمعهد الوطني للإحصاء أو وزارة الشؤون الاجتماعيّة عن خلل رهيب بين الجهات المحظوظة التي تتمركز على الساحل الشرقي للبلاد وبين باقي الجهات الغربيّة والجنوبيّة، فبينما تتحدّث الحكومات المختلفة سواء قبل 14 جانفي أو بعدها عن معدّلات تنمية “معقولة”، من حيث نسبة فقر على المستوى الوطني لا تتجاوز 15%، ونسب بطالة تراجعت بحسب التصريحات والبيانات الرسميّة إلى 16,5% بالإضافة إلى تراجع نسبة الأميّة إلى 18,9%، تشير نفس تلك البيانات إلى حجم الكارثة التي تعاني منها الجهات المهمّشة التي تتضاعف فيها تلك النسب، حيث بلغ معدّل البطالة في الشريط الغربي للبلاد ما يفوق 30%، في حين تصل بطالة أصحاب الشهائد العليا إلى 50%حسب ما صرّحت به وزارة الشؤون الاجتماعية. وهو ما أدّى إلى تنامي نسبة الفقر في مختلف تلك المحافظات لتتجاوز 38% حيث لا يتجاوز معدّل الإنفاق الأسري الشهريّ 300 دينارا في حين يتضاعف هذا الرقم في ولايات الوسط والشمال الشرقيّ.

وقد أدّت سياسة التهميش والحرمان والتخطيط المركزيّ إلى أن تتحوّل تلك الجهات إلى مناطق منفّرة حيث تفاقمت حصيلة الهجرة لتبلغ تقريبا 55.000 في مناطق الشمال الغربي والوسط الغربي، فالمناطق الداخلية استقطبت 11.000 من المهاجرين بين الولايات في سنة 2012 لكنها صدّرت في الآن ذاته ما يناهز 67.000 منهم.

النفور لم يكن حكرا على سكّان تلك المناطق، بل شمل الاستثمارات العموميّة والخاصّة، إذ لم تجذب المناطق الداخليّة سوى 20% من الاستثمارات الخاصّة وأقّل من 10% من الاستثمارات الأجنبيّة، في حين لم تتجاوز الاستثمارات العموميّة نسبة ال30%، في حين احتكرت العاصمة والجهات الساحليّة 95% من الإنتاج والتشغيل الصناعي (94% من المؤسسات المنشأة سنة 2010) والسياحي و67 بالمائة من أسطول السيارات وما يناهز 75 % من القيمة المضافة ونسبة كبيرة من  الثروات ومن المداخيل و86,4 % من نوادي الإعلامية، كما احتكرت تلك الجهات 82% من البرامج التنمويّة خلال العقود الخمسة المنصرمة. هذه السياسة أدّت في نهاية المطاف إلى انحسار المجال الاقتصادي النشيط والدينامكي في مثلث حول العاصمة يضم الشمال الشرقي والوسط الشرقي للبلاد.

أمّا بخصوص البنى التحتيّة والميزانيات البلديّة، فقد كشفت إحصائيات سنة 2013 حجم التفاوت في تقسيم المخصّصات البلديّة التي لا تمثّل سوى 4% من حجم الإنفاق العمومي، إذ تستأثر 7% من بلديّات البلاد الواقعة في المناطق المحظوظة كالساحل والضاحية الشمالية الراقية في العاصمة التونسيّة على 51% من الموازنات العامة في حين يتم تقسيم الباقي على 93% من البلديات المنتشرة في البلاد والتي يناهز عددها 246 بلديّة.

decentralisation-tunisie-municipalites

دسترة اللامركزيّة في تونس: الملامح والآليات

لقد انطلقت الثورة من المناطق الداخلية عامة والوسط الغربي أساسا وهي المنطقة التي تحتل المراتب الأخيرة في كل شيء إلا الخصاصة والفقر والبطالة، وهو ما يجعل من معضلة التفاوت الجهويّ أولوية مطلقة لنزع فتيل التوتّر وإيجاد حلّ اقتصاديّ وإداريّ جذريّ للمناطق المهمّشة. هذه المشكلة التي تراكمت طيلة عقود نتيجة الإفراط في المركزيّة السياسيّة والاقتصاديّة دفعت المجلس الوطني التأسيسي إلى تبنّي اللامركزيّة ودسترتها لمحاولة خلق توازن جهويّ والقطع مع القرارات والمخطّطات المسقطة والتي أثبتت فشلها في نهاية المطاف.

الندوات والنقاشات حول اللامركزيّة والتي انطلقت قبل ثورة 14 جانفي استطاعت في النهاية أن تجد لها مكانا في دستور 2014 الذّي نصّ على “أن “تلتزم الدولة بدعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني في إطار وحدة الدولة” في إطار سعي الطبقة السياسيّة الجديدة إلى معالجة هذا الاختلال الجهويّ وتدعيم مفهوم التمييز الإيجابي لصالح الجهات المحرومة والمهمّشة.

الدستور التونسيّ لم يكتف بهذا الفصل، بل تضمّن فقرات وفصولا أخرى توضّح آليات اعتماد اللامركزيّة ومسؤوليات جميع الأطراف والأهداف المرسومة من وراء اعتماد هذا المنهج الجديد.

بعد الفصل 14 الذّي اعترف بمبدأ اللامركزيّة كآليّة لتسيير المجال الترابيّ للبلاد، تضمّن الدستور لاحقا فصولا أخرى توضّح الأطراف والمسؤوليّات الموكلة لجماعات المحليّة التي ستنقل إليها سلطات الدولة في الجهات المختلفة للبلاد، كما جاء في الفصل 131 الذّي نصّ على أن “تقوم السلطة المحلية على أساس اللامركزية. تتجسد اللامركزية في جماعات محلية، تتكون من بلديات وجهات وأقاليم، يغطي كل صنف منها كامل تراب الجمهورية وفق تقسيم يضبطه القانون. يمكن أن تحدث بقانون أصناف خصوصية من الجماعات المحلية.” ليعود الدستور في الفصل 141 ليشرح بشكل تفصيليّ تركيبة الجماعات المحليّة وهياكلها إضافة على مهامها وفقا للنصّ القانوني الذّي جاء فيه “المجلس الأعلى للجماعات المحلية هيكل تمثيلي لمجالس الجماعات المحلية مقره خارج العاصمة. ينظر المجلس الأعلى للجماعات المحلية في المسائل المتعلقة بالتنمية والتوازن بين الجهات، ويبدي الرأي في مشاريع القوانين المتعلقة بالتخطيط والميزانية والمالية المحلية، ويمكن دعوة رئيسه لحضور مداولات مجلس نواب الشعب. تُضبط تركيبة المجلس الأعلى للجماعات المحلية ومهامه بقانون.” كما أنّ الدستور التونسيّ لم يغفل الجانب الماليّ الذّي لا تستقيم دونه التجربة اللامركزيّة، وهو ما ضمّنه الدستور التونسي في الفصل 132 “تتمتع الجماعات المحلية بالشخصية القانونية، وبالاستقلالية الإدارية والمالية، وتدير المصالح المحلية وفقا لمبدأ التدبير الحر.” والذّي منح الصفة القانونيّة والاستقلاليّة الإداريّة والماليّة وحريّة التصرّف والقرار للجماعات المحليّة.

أما عن كيفيّة تنصيب تلك السلط الجهويّة والمحليّة، فتم اعتماد الانتخابات كآليّة وحيدة وفق ما جاء في الفصل 133:

تدير الجماعات المحلية مجالسُ منتخبة. تنتخب المجالس البلدية والجهوية انتخابا عاما، حرا، مباشرا، سريا، نزيها، وشفافا. تنتخب مجالس الأقاليم من قبل أعضاء المجالس البلدية والجهوية. يضمن القانون الانتخابي تمثيلية الشباب في مجالس الجماعات المحلية.

أما الفصل 135 والذي ينصّ على أنّ “للجماعات المحلية موارد ذاتية، وموارد محالة إليها من السلطة المركزية، وتكون هذه الموارد ملائمة للصلاحيات المسندة إليها قانونا. كل إحداث لصلاحيات أو نقل لها من السلطة المركزية إلى الجماعات المحلية، يكون مقترنا بما يناسبه من موارد. يتم تحديد النظام المالي للجماعات المحلية بمقتضى القانون.” فقد حدّد بوضوح مصادر التمويل للجماعات المحليّة والتي تنقسم إلى موارد ذاتيّة وأخرى منقولة من السلطة المركزيّة التي ألزمها الدستور بضرورة توفير الموارد الماليّة الضروريّة لضمان نجاح السلطات المحليّة في المهام الموكلة إليها. في حين ألزم الفصل 136 السلطة المركزيّة بضرورة دعم السلطات المحليّة بموارد إضافيّة في حال دعت الضرورة إلى ذلك والعمل على تحقيق التوازن بين المصاريف والموارد لدى الجماعات المحليّة، بالإضافة إلى إمكانيّة تخصيص جزء من مداخيل الثروات الطبيعيّة لتحقيق التنمية الجهوية على المستوى الوطني، بمعنى إمكانيّة توزيع عائدات الثروات الطبيعيّة على الجهات محدودة الموارد لدعم جهود التنمية في تلك المناطق. وهو ما تم إدراجه بوضوح في هذا الفصل:

تتكفل السلطة المركزية بتوفير موارد إضافية للجماعات المحلية تكريسا لمبدإ التضامن وباعتماد آلية التسوية والتعديل. تعمل السلطة المركزية على بلوغ التكافؤ بين الموارد والأعباء المحلية. يمكن تخصيص نسبة من المداخيل المتأتية من استغلال الثروات الطبيعية للنهوض بالتنمية الجهوية على المستوى الوطني.

العلاقة مع السلطة المركزيّة تمّ ضبطها في المنظومة القانونيّة التونسيّة عبر الفصول 134 و138 والتي نصّت على ثلاثة أصناف من الصلاحيّات للسلطات المحليّة، صلاحيات ذاتيّة، صلاحيّات مشتركة مع السلطة المركزيّة وصلاحيّات منقولة عنها. ولكنّ هذه الجماعات المحليّة تضلّ دائما جزءا من المجال السياسيّ والاقتصادي والترابيّ للبلاد، وهو ما يشدّد عليه الفصل 138 عبر التنصيص على خضوع هذه السلطات إلى الرقابة اللاحقة، بمعنى التقييم والمحاسبة على نتائج السياسات والخيارات والقرارات المعتمدة من قبل تلك السلطات المنتخبة محليّا وهو ما يترجمه النصّ القانوني في الفصل 138 من الدستور التونسيّ بوضوح والذي جاء فيه “تخضع الجماعات المحلية فيما يتعلق بشرعية أعمالها للرقابة اللاحقة.” التنمية الجهوية أو المحلية لا تتمثل في سياسة الهبة والإعانة التي تمكن من حل ظرفي ونسبي يكمن في خلق بعض مواطن الشغل المحدودة أو توفير جزء من رأس المال ولا تقف كذلك عند تحسين ظروف العيش أو بعث بعض المرافق كالمدارس أو مراكز الصحة الأساسية أو المسالك الريفية أو التنوير أو مد السكان بالماء، بل تتأسّس على خلق توازن سياسيّ واقتصادي عبر المجال الترابيّ للدولة وتدعيم اللامركزيّة في التخطيط والإدارة والتمويل وفقا لخصوصيّات كلّ جهة للوصول في النهاية إلى ترسيخ مبدأ التشاركيّة والعدالة في التنمية الاقتصاديّة والقرار السياسيّ.

انفتاح تونس بعد 14 جانفي 2011 على تجربة اللامركزيّة بعد عقود من سياسة القطب الواحد، واعتراف الدولة بضرورة تقاسم السلطات مع الجماعات المحليّة وتخفيف مركزيّة القرار، فسح المجال أمام محاولات محليّة وخارجيّة لطرح رؤى وبرامج مختلفة لكيفيّة تجسيد السلطة اللامركزيّة وآليات تنفيذها. وهو ما ستتناوله نواة في الجزء الثاني من هذا المقال الذي سيتفحّص المشاريع المطروحة وطبيعة الاقتراحات والضغوط الخارجيّة.