المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

anc-tunisie-terrorisme-loi

بقلم: شكري بن عيسى


المعالجات القاصرة لن تقود سوى للفشل.

المعالجات المتشنجة لن ترسي سوى في شاطىء الخيبة.

المعالجات العشوائية لن تفضي الا لاعادة انتاج الظواهر المرضية في اشكال متنوعة عادة ما تكون اخطر من سابقاتها.

هكذا علّمنا التاريخ والتجارب السابقة، ولكننا غالبا ما نعيد نفس الاخطاء ونسقط في نفس المطبات.

وكم تعالت هذه الايام، كما في السابق، عقب كل عملية غادرة يقضي فيها امنيينا او جنودنا، الاصوات الغوغائية “المكررة” التي لا تبحث في معظمها الا عن الاثارة وتصفية الحسابات وتحقيق المكاسب، وادعاء البطولات، الى حد ان عديد الوجوه النقابية والاعلامية والسياسية وحتى القضائية أطلت علينا عبر الفضائيات والاذاعات للدعوة لمصادرة حقوق الانسان وخرق القانون عند مطاردة مشتبهين في عمليات ارهابية او عند مقاضاتهم او ايقافهم او سجنهم او استجوابهم او حتى عند الحديث عنهم في وسائل الاعلام.

عدم لحظ اعتبارات حقوق الانسان وصل هذه المرة الى اعتداءات موثقة بدنية ولفظية طالت اعلاميين في تغطية احداث بولعابة الى حد اشهار امني لسلاح في وجه احد الصحفيين، وهنا تكمن اول مناحي انتهاك حقوق الانسان.

التضييق و مصادرة الحق الاعلامي هو مدخل خطير لمصادرة حق التعبير وبالتالي حق المواطن في النفاذ للمعلومة والمعرفة بشكل عام، وما يثمّن ان تحركت نقابة الصحفيين في الابان عبر بيان وثّق التجاوزات الصارخة وادان الاعتداءات، واستجابت الحكومة بفتح تحقيق في الغرض، يبدو انه مثل سابقيه لن يكون جديا ونزيها، ويوم الاحد تمت موجة جديدة من الاعتداءات على اعلاميين من قبل اعوان حرس، هذه المرة هددت النقابة بادراج وزارة الداخلية على قائمة اعداء الحرية وبالاحتفاظ بحق التتبع القضائي للمعتدين.

حق المواطن في معرفة الحقيقة هو حق جوهري، كما ان حق الصحفيين في نقل الاخبار هو حق اساسي، ولا يمكن بحال الاكتفاء بما تقدمه الداخلية عبر ناطقها “الرسمي” او عبر صفحتها “الرسمية”، والخبر -ايّ خبر- لا يمكن الوثوق والاعتداد به من مصدر واحد، فضلا على ان الداخلية طرف، عادة ما تسعى لاخفاء بعض الحقائق لاسباب تتعلق بالفعالية او للتستر على وجود اخلالات وتجاوزات، او تعطي اخبار مغلوطة لدفع عديد الاتهامات، والاصل ان تكون البيانات في الصدد من جهات قضائية موثوقة لها مصداقية كاملة وتتمتع بصفة الاستقلالية.

بيانات وتصريحات الداخلية غالبا ما شابتها الاخطاء وفي عدة احيان مغالطات جلية وتقرير اللجنة المستقلة لتقصي الحقائق في الذهيبة بيّن الفروق الكبيرة بين الواقع والرواية “الرسمية”، وما حدث في منزل كامل ايضا في مخيم كشفي تحوّل حسب الرواية “الرسمية” لمعسكر تدريب ارهابيين بيّن الخلل الجسيم في الموقف “الرسمي”، وتدخّل النيابة العمومية في منع فيديو “اعترافات” المشتبه بهم في قتل عون الامن الشرعبي في الفحص الشهر المنقضي الذي انتجته الداخلية ابرز دليل على وجود التجاوزات.

التشنيع بالجثث كما تم في عملية رواد في شهر فيفري من العام المنقضي بعرض القتلى على الشاشات هو مس من حرمة الذات البشرية وحط من الكرامة الادمية، مهما كانت صفة المعني ومهما كانت فضاعة وبشاعة الجريمة التي اقترفها، ومهما كانت حدة المواجهة فيما اصطلح عليه بـ”الحرب على الارهاب”.

“الحرب على الارهاب”، هذه التسمية التي غزت كل الفضائيات والاذاعات والمقالات، لا نفهم حقيقة دلالة استعمالها خاصة من السياسين والنخب الفكرية التي انجرت لمزيد الدفع في اتجاه التخمر والغوغائية. هذا المصطلح جاء اعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001 من حكومة جورج دبليو بوش واصبح محورا في السياسة الامريكية طيلة حكمه، الى ان تم التخلي عنه رسميا في ماي 2010 مع ادارة الرئيس اوباما، بعد الانتقادات اللاذعة لـ”حرب” غير واضحة المعالم ولا الابعاد.

المشكل العميق ان استعمال كلمة “حرب” يحدد مسبقا طبيعة “المعالجة” وبالتالي الادوات المستعملة، ويقود فضلا عن ضيق المقاربة التي عادة ما لا تحقق النجاح، واعتماد الانتهاكات الحقوقية والقانونية والتضييق، الى افق غير واضح قد يفضي الى عودة القبضة الامنية واعادة انتاج الاستبداد تحت مسمى حماية الامن.

الامم المتحدة، المنتظم الاممي الاعلى الذي يضمن السلم والامن الدوليين وينظم كيفية مجابهة ظاهرة الارهاب على المستوين الدولي والوطني يستعمل مصطلح واضح ومحدد: “مكافحة الارهاب”، ولا نكاد نعثر لمصطلح “الحرب على الارهاب” عن قرار في “استراتيجة الامم المتحدة العالمية لمكافحة الارهاب”، بل ان الامم المتحدة تحت فورة احداث الحادي عشر من سبتمبر اعتبرت الدفاع عن حقوق الانسان واعلاء شأن سيادة القانون هو “جوهر” الاستراتيجية التي وضعتها لمكافحة الارهاب.

ووضعت، في الصدد، الادلة المرجعية لحقوق الانسان بشأن “امن الهياكل الاساسية” وبشأن “التوقيف والتفتيش”، واقرت مقرر خاص معني بتعزيز وحماية حقوق الانسان والحريات الاساسية في سياق مكافحة الارهاب، وشددت على ان حقوق الانسان يجب احترامها احتراما “تاما”، تتعهد به الدول الاعضاء وبالتصدي لاي انتهاك في الخصوص، بل ذهبت الى ابعد من ذلك في استراتيجيتها المذكورة المرتكزة على اربع محاور الى اعتبار ضمان حقوق الانسان وسيادة القانون “ركيزة اساسية” لمكافحة الارهاب وافردتها محورا كاملا.

انتهاكات حقوق الانسان، كما التهميش والتمييز والمحسوبية والاقصاء السياسي والفقر وغياب التنمية وانتشار البطالة واستشراء الفساد ودوس القانون وتقويض العدالة، هي التي تصنع الغبن وتحوله في عديد الاحيان الى حقد يستبد بالعقول والنفوس ويفسّر “الانتقام” الدموي، وطبعا لا يمكن لاي معالجة فعّالة منطقيا ان تزرع من جديد الاسباب المغذية لافة الارهاب.

الاعتقالات العشوائية والتعذيب والمداهمات بـ”الكركارة”، لا تعطي اشارات لشرعية ممارسات السلطة، وبالتالي تفقد سلامة الغايات في مكافحة الارهاب، وتتحول الى مغذي للحقد والنقمة والسوداوية مادام العدل مفقودا، وسلامة الاجراءات وضمان المحاكمات العادلة وحقوق الدفاع هي صميم العدالة، وحفظ كرامة الانسان بما فيها السجين المدان هي حقوق اساسية احترامها من صميم دولة القانون.

اما القذف بتهمة الارهاب قبل صدور قرار دائرة الاتهام، والادانة قبل اصدار حكم قضائي نهائي بات فهو خرق لمبدأ البراءة، لأن الاتهام والادانة هي من الاختصاص الحصري للقضاء دون غيره، وهو الوحيد الذي يمكن ان يطبق القانون، وهذا من صميم مبدأ تفريق السلط واستقلال السلطة القضائية على بقية السلط وخاصة التنفيذية، التي لا يحق لها حتى في حالة التلبس توجيه التهم الذي يعتبر تدخلا في القضاء، ونفس الشيء ينطبق على الاعلام الذي لا يجوز له اصدار الاحكام والجلوس على كرسي القاضي.

استقلالية القضاء هي جوهر دولة الحق والقانون، وتحقيق العدالة هو احد عوامل معالجة الارهاب التي لا تتحقق دون هذه الاستقلالية، وحقوق الانسان وسيادة القانون هي التي تكسب الدولة وقراراتها المشروعية والقبول، ومن بين جذور الارهاب افتقاد الامل في وجود العدالة، بشرذمة او تهميش القضاء. واليوم المقاربات الامنية لآفة الارهاب ضخمت الالة البوليسية التي تضاعفت ميزانيتها منذ الثورة بقرابة الـ 150 % بما يفوق 2600 مليون دينار مقابل 430 مليون دينار فقط لوزارة العدل.

طبعا للامنيين الحق في المعدات والحماية القانونية وضمان كل مستوجبات المواجهة ضد المخاطر والتهديدات، ولكن ان تتم الهرولة في اتجاه واحد دون بقية الاتجاهات فالاستفهام يصبح مضاعفا، من ناحية غياب الفعالية في استعمال الوسائل الموضوعة على ذمة الامنيين وعدم وجود استراتيجية امنية تحوي العامل الاستعلاماتي اصلا للتصدي للظاهرة، ومن ناحية اهمال المعالجة التنموية والسياسية والاجتماعية والثقافية لظاهرة مركبة متعددة الابعاد.

تكامل مسارات المعالجة ومراعاة الكلفة المادية والاجتماعية والسياسية والامنية في نفس الوقت هو ما يعطي افق النجاح، وبدون زرع الامل في تحقيق التنمية والتشغيل والمساواة والمشاركة في ثروات البلاد وحكمها، وبدون مقاربة تربوية ثقافية اعلامية منيرة للعقول، وبدون عدالة وعلوية للقانون وتكريس لحقوق الانسان، ستظل المقاربة الامنية بلا حاضنة شعبية ساندة هي الضامنة وحدها لمواجهة الارهاب، وهي التي تؤمّن الحصانة الاجتماعية ضد اعادة تفريخه.

(*) قانوني وناشط حقوقي