cotusal-groupe-salins-tunisie

الاستعمار لا يقتصر على التواجد العسكريّ المباشر، والتحكّم في القرار السياسيّ للبلاد، بل يمتدّ إلى الهيمنة على مقدّرات البلاد وتكييف اقتصادها وفقا لمصالحه ونهب ثرواتها الطبيعيّة التي تنتزع من الأرض المستعمرة لتستفيد بها شعوب القوى الاستعماريّة.
خلال التاريخ البشريّ، كانت الرغبة في السيطرة على الثروات الطبيعيّة محور الصراع بين القوى الكبرى وسببا رئيسيّا في اندلاع الحروب. ولكنّها وفي الآن ذاته كانت قادحة للثورات ودافعا للشعوب من أجل تحقيق الإستقلال السياسيّ والإقتصاديّ وإعادة الثروة لاصحابها.

الملح الذّي سيكون محور التقرير المصوّر لنواة والمصاحب لهذا المقال، ليس فقط ذلك “السمّ الأبيض” الذّي يحذّر الأطباء من الإفراط في استهلاكه، بل هو ثروة طبيعيّة كانت السبب وراء بداية مسيرة الإستقلال في الهند بقيادة الزعيم غاندي عندما تحوّل نهب بريطانيا في ذلك الوقت لثروة البلاد من الملح عنوانا لمسيرة كبرى انتهت بطرد القوى الاستعماريّة. في تونس، تتغيّر الاسماء والتفاصيل والظروف السياسيّة والتاريخيّة، ولكنّ الملح، ذلك الذهب الابيض، ما يزال حتّى هذه اللحظة ثروة محرّمة على اهل البلاد. فهل لنا أن نتصوّر أن يأتي يوم يكون فيه ملح تونس وثرواتها الطبيعيّة قادحا لمسيرة الإستقلال الإقتصاديّ؟

الثروات الطبيعيّة ملك للشعب التونسي. تمارس الدولة السيادة عليها باسمه. تعرض عقود الإستثمار المتعلّقة بها على اللجنة المختصّة بمجلس نوّاب الشعب. وتعرض الاتفاقيات التي تبرم في شانها على المجلس للموافقة. الفصل 13 من الدستور التونسي

بعد المصادقة على الدستور التونسيّ الجديد وتوقيعه من قبل رئيس الجمهوريّة السابق محمد منصف المرزوقي في 26 جانفي 2014، استعدّ المجلس الوطنيّ التأسيسيّ للتصويت على “حكومة التوافق” الجديدة برئاسة مهدي جمعة وزير الصناعة في حكومة الترويكا.

اتفاقيات استغلال الثروات الطبيعيّة: مربط الفرس

الجلسة الصاخبة التي تعرّض خلالها الفريق الحكومي إلى عشرات الأسئلة والهجمات من قبل النوّاب، تميّزت بموقف حاد من رئيس لجنة الطاقة والقطاعات الإنتاجيّة شفيق زرقين الذّي ربط تصويته لصالح الحكومة الجديدة بتعهّد هذه الأخيرة بمراجعة عقود استغلال الثروات التونسيّة التي تمّ إبرامها قبل الاستقلال في إشارة واضحة لواحدة من أكبر الاستثمارات الأجنبيّة في البلاد وأعرقها “الشركة التونسية العامة للملاحة (كوتوزال)” التي تمثّل فرعا من فروع مجموعة “Salines” الفرنسيّة. وهو ما حصل بالفعل، حث تعهّد رئيس الحكومة الانتقاليّة مهدي جمعة بالنظر في عقود استغلال الثروات الطبيعيّة التونسيّة بل وذهب إلى حدّ الإعلان عن أنّه بدأ بالفعل في دراسة الموضوع والتدقيق فيه.

شركة “كوتوزال” كانت ومازالت من أكثر الاستثمارات الأجنبيّة غموضا في تونس، قد سعت نواة إلى تسليط الضوء على نشاطات هذه الشركة في تونس ومعاملاتها الماليّة والجبائيّة والقانونيّة وحتّى التأثيرات البيئية والاقتصاديّة كما جاء في التقرير المصوّر المصاحب حول نشاط “كوتوزال” في معتمديّة جرجيس الذي كشف حجم التأثيرات السلبيّة لعمليّة استخراج الملح على التوازن البيئيّ بالإضافة إلى سطوة هذه الشركة وعلويّتها على القانون في ظلّ صمت رسميّ مريب.

بقايا الاستعمار الفرنسي

الاتفاقيّة الممضاة بين حكومة الباي ومجلس إدارة كوتوزال سنة 1949 لم تكن بداية الشركة واستغلالها للملح التونسيّ، بل كان ذلك تاريخ اندماج أربع شركات تستغلّ ملاّحات “خنيس” في المنستير، سيدي سالم، “طينة” في صفاقس ومقرين منذ سنة 1903، بل ويسجّل التاريخ التونسيّ بداية التحرّكات الاحتجاجيّة النقابيّة منذ سنة 1904 حين دخل عمّال ملاحة خنيس في إضراب احتجاجا على أجورهم المتدنيّة وقساوة ظروف العمل.

وقد ظلّت شركة كوتوزال تحتكر هذا القطاع إلى حدود سنة 1994 قبل أن تدخل شركات خاصّة أخرى هذا المجال. نواة التي تناولت نشأة هذه الشركة والظروف التاريخيّة لبدء نشاطها في تونس، تناولت جانبا مهمّا يتعلّق بإدارة هذه المجموعة والمشرفين على تسييرها في البلاد استنادا إلى كتاب ”Tunis Connections” الذي ألّفه الصحفيّان “Lénaïg Bredoux” و“Mathieu Magnaudiex. ومن سخرية التاريخ أن يكون على رأس الشركة اليوم السيّد نوربار دو جيليبون “Norbert de Guillebon” الذّي يشغل بالإضافة إلى منصب مدير عام الشركة، رئيس قسم تونس لمستشاري التجارة الخارجية الفرنسيّة (الشبكة الاقتصادية للسفارة الفرنسيّة) والذّي ليس إلاّ نجل الجنرال Jacques de Guillebon، قائد القوات الاستعمارية بقابس منذ سنة 1951، قبل أن يتم تعيينه كمتفقد للقوات في شمال أفريقيا في عام 1949. والذّي كان قد أمر بعمليّات في قفصة سنة 1956، تاريخ استقلال تونس.

اليوم وبعد 60 سنة من استقلال البلاد وخروج الجيش الفرنسيّ، يبدو أنّ فرنسا ما زالت تحافظ على مصالحها الاقتصادية وتضع يدها على ما تعتبره إرثا لحقبة “الانتداب” وحقّا مكتسبا لا يخضع للدستور أو القانون المحليّ.

ملح جرجيس: الثروة المحرّمة

بعد العديد من المقالات التي تناولت شركة “كوتوزال”، انتقلت نواة لترصد في جرجيس نشاطات الشركة على عين المكان ولتعاين تحرّكات المجتمع المدني والسلطات الرسميّة بالإضافة إلى ارتدادات عمليّة استغلال الملح على المستوى البيئي والإقتصاديّ.

التحرّكات النقابيّة والشعبيّة ضدّ “كوتوزال” انطلقت منذ مارس 2011، عقب سقوط حاجز الخوف والرهبة، حيث تحرّك عمّال الشركة ضدّ ما اعتبروه استعمارا مباشرا وسيطرة فرنسيّة على مقدّرات المنطقة التي حُرمت من عائدات الملح وتسبّبت في كوارث بيئيّة وتهميش اقتصادي للمعتمديّة.

في التقرير المصوّر الذّي أنتجته نواة يبدو واضحا مدى تململ المجتمع المدني من الامتيازات التي تحظى بها الشركة والتي جعلتها خارج المحاسبة القانونيّة والاقتصادية.

فالعائدات الجبائيّة لاستغلال وتصدير الملح والتي تتجاوز 50 مليون دينار سنويّا حسب مقطع مسرّب لاجتماع أحد مسؤولي الشركة مع وفد من أهالي جرجيس والمنظّمات المدنيّة، لا تنتفع بها المنطقة ولا توجّه إلى دفع جهود التنمية وتحسين البنى التحتيّة وخلق مواطن شغل جديدة، كما أنّ حجم المعاملات الماليّة للشركة يشوبه الكثير من الغموض حسب ما صرّح لنا احد ناشطي المجتمع المدني، فالتضارب بين حجم الكميات المستخرجة من الملح وأسعار بيعها، يتعارض مع بيانات الشركة الرسمية ومنشوراتها الماليّة.

وتشتكي البلديّة في جرجيس من تهرّب الشركة المذكورة من المساهمة في تمويل الأنشطة البلدية من صيانة وتحسين للبنى التحتيّة رغم استفادة “كوتوزال” من مختلف المرافق الموجودة في المعتمديّة، و رغم أن المساحة الشاسعة التي تحتلها “كوتوزال” لاستغلال الملح و التي تفوق بخمسين مرة مساحة المناطق العمرانية بجرجيس.

Cotusal-feat

كما أنّ المادّة 11 من اتفاقيّة 1949 تعتبر أكبر نقطة استفهام تحيط بنشاط الشركة في تونس، إذ تنصّ على:

سداد حقوق استغلال الأملاك العامة بقيمة 1 فرنك للهكتار الواحد سنويا لجميع المناطق التي تشملها رسوم الامتياز للمجال العام.

ورغم أنّ الاتفاقيّة قد خضعت للتعديل في ثلاث مناسبات كان آخرها 15 جوان 1975، إلاّ أنّ التعديلات اقتصرت على مراجعة مساحة سطح امتياز الاستغلال، مرتين لمزيد من التوسع ومرة لتقليصه دون أن تشمل مسئلة العائدات الماليّة ونصيب الدولة فيها، وقد حمل التعديل الأخير إمضاء السيّد شاذلي العيّاري محافظ البنك المركزيّ الذي كان حينها وزيرا للاقتصاد.

التجاوزات والانعكاسات السلبيّة لممارسات الشركة الفرنسيّة يتجاوز الجانب الاقتصاديّ ليشمل المحيط البيئيّ للمنطقة، حيث أدت عمليات الاستغلال وتوسيع أحواض تجميع مياه البحر وغياب الرقابة الرسميّة إلى هلاك عشرات الزياتين على ضفاف السبخة وفقدان التربة لخصوبتها، وهو ما يؤكّده أحد الفلاّحين في مداخلته، إذ حذّر من تحوّل الأراضي المحيطة بالأحواض والسبخة إلى أراض بور بعد 15 سنة.

نفس المشكلة يعاني منها الصيّادون نظرا لعمليّات تعبئة الأحواض الغير مدروسة والتي تؤدّي إلى جرف الأسماك وإنهاك الثروة السمكيّة خصوصا مع غياب وتجاهل السلطات الرسميّة لتحرّكات اتحاد الفلاّحين ومطالبهم بضبط استغلال الشركة لمياه البحر. ورغم أنّ “كوتوزال” تفاوضت سابقا مع هؤلاء الفلاحين والتزمت بمراجعة آليات التعبئة واستغلال مياه البحر، إلاّ أنها سرعان ما عادت إلى ممارستها القديمة بل قامت بتوسيع القناة الرابطة بين سبخة التجفيف والشاطئ.

المثير في الأمر، بالإضافة إلى موقف الشركة وتجاهلها للقوانين المنظّمة للاستثمار وانعكاسات أنشطتها على أهالي معتمدية جرجيس، هو تجاهل الحكومات المتعاقبة لتحرّكات الأهالي والمجتمع المدنيّ وكأنّ “كوتوزال” دولة داخل الدولة لا تطالها الرقابة أو المحاسبة.

الوعود تذهب سدى: الثروات الطبيعيّة في تونس صندوق اسود

الوعود التي أطلقها مهدي جمعة قبل المصادقة على حكومته بمراجعة مختلف الإتفاقيات المبرمة مع الشركات الأجنبية بالخصوص العاملة في مجال استغلال واستخراج الثروات الطبيعيّة في تونس، ذهبت سدى مع الأسابيع الأولى التي تلت بدء أعمال حكومة التوافق الجديدة.

وقد تناولت نواة في مقالات سابقة تواصل سياسة التعتيم والتجاهل لمطالب المجتمع المدني في ما يخصّ الثروات الطبيعيّة للبلاد. حيث أمضى وزير الصناعة و الطاقة والمناجم السيد كمال بالناصر يوم 14 مارس 2014، أمرًا أسند بمقتضاه إمتياز استغلال يتعلق بسبخة الغرة للشركة العامة للملاحات التونسية (كوتوزال).

ويغطي امتياز الاستغلال “سبخة الغرة” مساحة تبلغ 11200 هكتار و تدوم صلاحية هذا الإمتياز 30 عاما في تناقض تام مع وعد رئيس الحكومة وتعهّده بمراجعة الاتفاقية المبرمة مع الشركة قبيل تنصيبه. بل ذهبت وزارة الصناعة في تبرير هذا القرار عبر محاولة الإلتفاف على النصوص الواضحة للدستور وخصوصا الفصل 13.

التجاوزات لم تتوّقف عند هذا الحدّ، حيث كشفت “نواة” في شهر ماي الفارط عن مراسلة تمّت بين وزارة الماليّة ووكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي في 23 ماي من السنة الفارطة، تضمّنت قيمة الإتاوات المتخلّدة على شركة “كوتوزال” والتي بلغت قيمتها 5,7 مليون دينار إثر تهرّبها عن الدفع مستحقّاتها تجاه الدولة التونسيّة طيلة خمس سنوات بين سنتي 2007 و2012.
كما ذكّر رئيس ديوان الوزارة في هذه المراسلة بإمكانية فسخ العقد المبرم بين الدولة والشركة المعنيّة وفق الفصل 18 من الاتفاقيّة التي تمّ إمضاؤها بين الطرفين. الردّ الحكوميّ كان كما ذكرنا سابقا كان بإسناد امتياز استغلال جديد في صفاقس وتعتيما إعلاميّا على الموضوع، في الوقت الذّي كانت الحكومة السابقة تقوم بجولات مكوكيّة للتسوّل وترفع في أسعار المواد الإستهلاكيّة وتروّج لرفع الدعم عن المحروقات والتفريط في المؤسّسات العموميّة.

قضيّة “كوتزال” ليست سوى واحدة من قضايا عديدة يلفّها الغموض والتعتيم الإعلاميّ من قبل الحكومات المتتالية ووزارة الصناعة.

رغم بعض المحاولات الإعلامية وتحرّكات المجتمع المدنيّ إلاّ أنّ المسؤولين المتعاقبين عليها ما يزالون ماضين في إتباع نفس السياسة وخصوصا فيما يتعلّق بالمسألة الطاقية والثروات الطبيعيّة في تونس. حيث كان تصريح رئيس الحكومة الأخير بخصوص المضيّ قدما في عمليّة استخراج غاز الشيست آخر شطحات الوزارة بعد سلسلة من الإنتهاكات التي تناولتها نواة مطوّلا بخصوص التجاوزات التي تتعلّق بمنح رخص الإستغلال والتنقيب المتورّطة فيها رئيسة منظّمة الأعراف شخصيّا، والتعتيم الكبير على الإتفاقيات والعقود المبرمة في مجال الطاقة وإهمال أو التغاضي عن مشاريع الطاقة المتجدّدة، وكأنّ الثروات الطبيعيّة لتونس تمّت مصادرتها منذ عقود وأصبحت من المحرّمات على أهل البلاد التي تزداد اختناقا نتيجة تتالي الخيبات السياسيّة والأزمات الإقتصاديّة.